للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آداب المشي في القرآن الكريم]

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: انتهينا -أيها الإخوة- من الكلام عن آداب تلاوة القرآن الكريم، نتحدث اليوم -إن شاء الله- عن أدب إسلامي آخر وهو المشي، وربما يستغرب الإنسان ويقول: ماذا يمكن أن يوجد على المشي في هذه الشريعة؟! والحقيقة أن هناك كلاماً كثيراً في هذه الشريعة ورد في النصوص الشرعية يتعلق بالمشي، فلعلنا نذكر بعضه إن شاء الله في هذا الموضع.

أولاً: بالنسبة للقرآن الكريم، فإنه قد جاء ذكر آداب المشي في القرآن الكريم في عددٍ من السور مثل سورة لقمان وسورة الفرقان، قال الله سبحانه وتعالى عن وصية لقمان لولده: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:١٨ - ١٩].

ومعنى قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء:٣٧] أي: لا تمش مشية الخيلاء متكبراً جباراً عنيداً؛ فإن فعلت ذلك أبغضك الله، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:١٨] والمختال: المعجب في نفسه، والفخور: أي على غيره.

وأوصى ولده بقوله: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي: امشِ مقتصداً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين، هذا ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله، وقال العلامة الألوسي رحمه الله تعالى في تفسيره روح المعاني قال: (ولا تمش في الأرض) التي هي أحط الأماكن منزلةً (مرحاً) أي: فرحاً وبطراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:١٨] هذا هو التعليل للنهي، والمختال من الخيلاء، وهي التبختر في المشي كبراً، ولذلك قيل: إن اشتقاق اسم الخيل من الخيلاء، لأنه ما ركبها أحدٌ إلا وجد في نفسه خيلاء، فسميت الخيل خيلاً من هذا.

وقوله تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال رحمه الله: بعد اجتناب المرح فيه، توسط فيه بين الدبيب والإسراع، من القصد وهو الاعتدال، وقال ابن مسعود: [كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك].

وفي البداية والنهاية أن عائشة نظرت إلى رجلٍ كان يتماوت في مشيته فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء، فقالت: [كان عمر رضي الله عنه سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع] فالمراد إذاً بالإسراع فيه ما فوق دبيب التماوت، وعلق في الحاشية بقوله: ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً متماوتاً فقال: [لا تمت علينا ديننا أماتك الله تعالى] ورأى رجلاً مطأطئاً رأسه فقال: [ارفع رأسك إن الإسلام ليس بمريض].

فيكره مشي التماوت الذي يخفى فيه الصوت وتقل الحركات ويتزيا صاحبه بزي العباد كأنه يتكلف في صفاته بما يقربه من صفات الأموات، ليُوهم أنه ضعف من كثرة العبادة، وكأن هذا الذي يمشي مشية التماوت يريد أن يقول للناس: من كثرة عبادتي وصيامي أنني متعب في المشي، وهذا من أنواع الرياء، لأن المسلم مطالب بإخفاء عمله، والسلف رحمهم الله كان بعضهم من كثرة الصيام يصفر لونه، فكانوا يدَّهنون حتى لا يظهر جفاف الشفاه ولصوق الجلد من كثرة الصيام، وكانوا يدهنون في نهار اليوم الذي يصومون فيه، حتى لا يظهر أثر العبادة وأثر الصيام؛ فيكون خفياً، فهو أقرب إلى الله عز وجل.

فمشية التماوت التي يظهر صاحبها أنه عنده تعبٌ شديدٌ من العبادة هي أمرٌ مذموم، وورد في صفته صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وقال تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:١٩] وكونه عليه الصلاة والسلام كأنه ينحط من صبب لا يتنافى مع قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:٦٣] لأن بعض الناس إذا علم أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث كأنه ينحط من صبب، وأنه يسير بشيءٍ من الإسراع، وأنه يتقلع تقلعاً: (كان إذا مشى يتقلع) -كما سيأتي معنا بعد قليل- ظن أن هناك تعارضاً بين هذا وبين قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:٦٣] فيظن أن الهون في المشي يتنافى مع كونه أنه ينحط من صبب -كأنه ينحط من مكان مرتفع- وأنه يتقلع تقلعاً.

فقال الألوسي رحمه الله: إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه، وقال السخاوي: محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمرٍ ديني، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مما لا ينبغي.

وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه، وقيل: جعل البصر موضع القدم، فإن من عيوب الإنسان أن يتلفت وهو يمشي يميناً وشمالاً يتفرج، وربما وقعت عيناه على امرأة ونحو ذلك، وقد ذكروا -في مسألة غض البصر- أن رجلاً كان يمشي وينظر إلى امرأة في جانب الطريق فارتطم بعمودٍ فسال دمه من هذه الصدمة؛ فالالتفات يميناً وشمالاً لا إلى الأمام لا شك أنه من عيوب المشي.

قال: وقيل جعل البصر موضع القدم، هذا بالنسبة لما ذكره في هذا الموضع.

وقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) من أَقْصَدَ الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها، أي: سدد في مشيك، والمراد: امش مشياً حسناً، وكأنه أُريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء، هذا بالنسبة لما ذكره في هذا الموضع.

وذكر الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في تفسير سورة الإسراء عند قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:٣٧]: نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية، (وقُرئ مرَحاً ومرِحاً) إذا قرأنا: (ولا تمش في الأرض مَرِحاً) أي لا تمش في الأرض في حال كونك متبختراً متمايلاً مشي الجبارين، قال: وأصل المرح في اللغة شدة الفرح والنشاط، وأطلق على مشي الإنسان متبختراً لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادةً.

ولا شك أن الذي يمشي مشية الخيلاء متبختراً متفاخراً عُرضة لعذاب الله، والدليل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره عن مسلم بن جحاشن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا بن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد -وهذا مشي الجبارين المتغطرسين- فجمعت ومنعت -جمعت الأموال ومنعت الفقراء- حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنّى أوان الصدقة)؛ لأنه إذا بلغت الروح التراقي فلا توبة ولا تنفع التصرفات المالية، أو لا تنفذ التصرفات المالية في تلك اللحظة.

وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي كان يمشي متبختراً فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فهناك عقوبة للمتجبرين في مشيتهم، فالذي يمشي مشية الخيلاء متغطرساً مهدد بعقوبة من الله، ويوم القيامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون كأمثال الذر على صور الرجال يطؤهم الناس بأقدامهم).

انتبهوا يا أيها الإخوة! قضية المشي هذه قضية مهمة ورد ذكرها في القرآن في هذه السور الثلاث في لقمان والفرقان والإسراء، فالمسألة مهمة.

يقول الله تعالى في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:٦٣] أول صفة لعباد الرحمن ذكرها أنهم يمشون على الأرض هوناً قال ابن كثير رحمه الله: هوناً أي بسكينةٍ ووقار من غير جبرية -أي بدون تجبر ولا استكبار- كما قال الله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:٣٧].

فأما هؤلاء -أي: المؤمنون عباد الله- فإنهم يمشون من غير استكبارٍ ولا مرح ولا أشرٍ ولابطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياءً -يمثلون تمثيلاً ويتظاهرون تظاهراً ويتماوتون تماوتاً- فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، هذا في قوة مشيته وسرعته عليه الصلاة والسلام، فلا تفهم من قوله تعالى: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:٦٣] أن تلك مشية المتماوت البطيء المتثاقل في الحركة؛ بل لا تبختر ولا تماوت، وامش بين بين، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعفٍ وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً فقال: ما بالك أأنت مريض؟! قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة، وإنما المراد بالهون هاهنا السكينة والوقار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون -ركضاً وهرولةً وإسراعاً مفرطاً مبالغاً فيه- وائتوها وعليكم السكينة والوقار -والسكينة والوقار ليس معناها أن نسحب أرجلنا سحباً على الطريق- فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) هذا بالنسبة لما ذكره رحمه الله في سورة الفرقان.