[ما لا يدرك كله لا يترك كله]
إذا ترك شوطاً في الطواف أو بعض شوط كمن دخل في الحجر وخرج منه أثناء الطواف، فعليه أن يأتي بما تركه إذا كان في وقت قريب عند الحنابلة؛ لأنهم يشترطون الموالاة بين الطوافات، وأما من ترك شوطاً من السعي أو بعض شوط، فعليه تداركه بالإتيان به ولو بعد مدة، لأنه لا يشترط الموالاة في الطواف كما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني.
إذا نسي الرمل في الأشواط الأولى من طواف القدوم -وهو سنة للرجال- فات محله، لكن لو تذكر في الشوط الثاني، تذكر أنه لا يرمل وبإمكانه أن يرمل، هل يقول: فاتنا الأول فنكمل على الأول؟ نقول: لا.
انتهز الفرصة وأكمل الرمل في الثاني.
ولا يشرع له تدارك الهرولة في السعي بين العلمين الأخضرين في الصفا والمروة إذا فات؛ لأنه تعدى الموقع فلا يهرول بعدما تعدى الموقع.
إذا فاته الاضطباع في طواف القدوم ثم تذكر وهو في الشوط السابع أنه لم يضطبع، فعليه أن يخرج كتفه الأيمن ويكشفه، ولا يقول: فاتني ستة فأكمل، لا.
بل ينتهز الفرصة ويأتي بما بقي.
وهكذا من الأشياء في طواف الوداع إن خرج دون أن يأتي به فعند الشافعية والحنابلة يجب عليه الرجوع لتداركه إن كان قريباً دون مسافة القصر، ويسقط عنه الإثم والدم، فإن تجاوز مسافة القصر لم يسقط عنه الدم، ومن تجاوز الميقات دون إحرام، إذا رجع إليه فأحرم فلا يلزمه شيء.
نلاحظ عموماً أيها الأخوة، أن المبادرة بالتدارك تنقذ الشخص من الإثم أو التبعات كالكفارة أحياناً.
وفي مجال الآداب قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً، فليقل: باسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: باسم الله في أوله وآخره) يتدارك، رواه الترمذي.
وفي النوافل: عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل -من وجع أو غيره- صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة) رواه مسلم.
من فاتته صلاة الجماعة: قال البخاري في صحيحه: باب فضل صلاة الجماعة، وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر.
صلاة العيد: قال البخاري رحمه الله: باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عيدنا نحن أهل الإسلام) وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين.
وهناك صلوات إذا فاتت فلا تتدارك، كصلاة الكسوف، إذا انتهى الكسوف فلا يمكن الصلاة.
وهكذا النوافل كالعيد والضحى والرواتب التابعة للفرائض والأظهر أنها تقضى، وسألت شيخنا الشيخ عبد العزيز -نفع الله به- عمن دخل المسجد فجلس؛ هل تفوت التحية؟ فقال: يقوم فيصلي ركعتين كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
حتى قضاء الحقوق، قال العلماء: يتدارك بقضاء ما عليه كالنفقة الواجبة على الزوجة عند الجمهور، فمن تركها وأهملها فلا تسقط النفقة، وتبقى على الرجل لزوجته ديناً لا يسقط بمضي الزمن.
وحتى مسألة العدل بين الزوجتين، قالوا: والزوج إذا لم يبت عند ذات الليلة لعذر أو لغير عذر قضاه لها عند الشافعية والحنابلة.
وإذا استعرضنا القواعد الفقهية وجدنا أن من بينها (مالا يدرك كله لا يترك كله) و (الميسور لا يسقط بالمعسور) واستدلوا له بحديث البخاري: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وللقاعدة ألفاظ منها: مالا يدرك كله لا يترك جله، أي ما لا يدرك كله لا يترك باقيه، ومنها: مالا يدرك كله لا يترك كله، أي بل تأتي بما تستطيع، ومثلوا لها بأمثلة فمثلاً: إذا كان بعض العضو مقطوعاً وجب عليه غسل ما بقي، وإذا قدر على ستر بعض العورة لزمه ذلك، ومن قدر على بعض صاع في الفطرة أخرجه، ولو عجز عن سداد كل الدين أدى ما قدر عليه.
وهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس، فبعض الناس قد يستلف عشرة آلاف، فإذا جاء وقت السداد، وطولب بالدين وما عنده إلا خمسمائة، يقول: ماذا تغني الخمسمائة في العشرة آلاف؟! فينفقها هنا وهنا ويقول لصاحب الدين: ما عندي شيء، نقول: تستطيع أن تؤدي خمسمائة من العشرة آلاف أدها، ومسألة تضييع الحقوق في الديون لا تحصى ولا تعد.
ثم أيها الأخوة: في مسألة تدارك ما فات، قد يكون ما فات بتقصير وقد يكون بغير تقصير، وليست الدعوة الآن لأن نعوض ما فاتنا إذا قصرنا فقط، بل حتى إذا لم تقصر وفاتك شيء من الخير فابحث عن أبواب أخرى، وتمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة).
هؤلاء هم المهاجرون رضي الله عنهم فقراء، فاتتهم الصدقة ليس بتقصير منهم، ومع ذلك جاءوا يسألون كيف نعوض؟ الرسول عليه الصلاة والسلام فاته قضاء سنة الظهر، ليس من تقصير ولكن شغل بطاعة عن طاعة، شغله وفد عبد القيس، فاستدركها وقال لمَّا سئل عن ذلك: (وإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) كما في البخاري عندما رأته أم سلمة يصلي بعد العصر وكان عندها نساء، فقالت للجارية: (قومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، ثم ذكر الحديث).
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا احتاج أن يكلم المصلي ولا بد، يكون بجانبه ليس أمامه ولا خلفه، يكون بجانبه ويكلمه، وأرادت أم سلمة أن تذكره عليه الصلاة والسلام لأنه ربما نسي.