عندما يفارق الناس أوطانهم ويبتعدون عن أهليهم يشعرون بنوع من الوحشة، وقد يصيبهم مرض في غربتهم، ولابد من مراعاة شعور هؤلاء، خصوصاً إذا تركوا أوطانهم لله، وهاجروا من ديارهم في سبيل الله.
لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وعك أبو بكر وبلال -أصابهم المرض- قالت عائشة: فدخلت عليهما فقلت: يا أبتي! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى، يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
هذه أشياء كانت في مكة وبلال يحن إليها، الإذخر، ومياه مجنة، وشامة وطفيل، أشياء تُذكّر بلالاً بـ مكة.
وهذه الوحشة التي يعاني منها بلال هي لأنهم تركوا البلد والوطن لله مهاجرين في سبيل الله، قالت عائشة:(فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها -أي نقها من الأمراض- وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجحفة) كان في المدينة حمى فنقلت كمعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت بـ الجحفة، وهو مكان يبعد عن المدينة.
فانظر كيف راعى الرسول صلى الله عليه وسلم أحوال هؤلاء الغرباء وشعورهم، وفي البخاري أيضاً عن مالك قال:(أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون -أي: أتينا من بلدتنا نطلب العلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن في سن الشباب، متقاربون في السن- فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنّا قد اشتقنا إلى أهلنا، سألنا عمن تركنا خلفنا، فأخبرناه -أي قال: كيف أهلكم؟ كيف تركتموهم؟ كيف الذين جئتم من عندهم؟ - ثم قال عليه السلام: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم).
لم يقل: ابقوا عندي زيادة تتعلمون، بل راعى شعورهم، فهم شباب صغار فارقوا الأهل والأوطان والأحبة، قال:(ارجعوا إلى أهليكم) شفقة بهم وعليهم، ومراعاة لنفوسهم وشعورهم.