للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعريف النصيحة]

الحمد لله، أحمده سبحانه وتعالى وأثني عليه الثناء الجميل بما هو أهل له، وصلى الله وسلم وبارك على محمد عبد الله ورسوله الداعي إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.

أيها الأخوة: موضوعنا لهذه الليلة موضوع مهم، ويكفي في التدليل على أهميته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (الدين النصيحة) يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين بأنه النصيحة.

وهذا الموضوع -أيها الإخوة- يتكون من ثلاثة أركان: ١ - الكلام على الناصح.

٢ - الكلام على المنصوح.

٣ - الكلام على النصيحة.

لأن أركان هذا الموضوع ثلاثة: ناصح، ومنصوح، ونصيحة.

وقبل أن نبدأ في الكلام على الأركان الثلاثة لهذا الموضوع فلا بد من مقدمة يكون فيها تعريف النصيحة وأهميتها ومجالاتها.

فأقول وبالله التوفيق وأسأله سبحانه وتعالى أن يقينا الزلل ويجنبنا الباطل والوقوع فيه.

أيها الإخوة: كلمة نصيحة مأخوذة من الفعل العربي نصح، قال ابن منظور في لسان العرب: نصح أي: خلص، والناصح أي: الخالص من العسل وغيره، العسل إذا كان صافياً يسمى ناصحاً أي: خالصاً، ويقال: نصحاً ونصيحة في المصدر، وتقول: نصحت فلاناً ونصحت له، تقول: نصحته ونصحت له، ونصحت له أفصح؛ لأن القرآن ورد بهذا، فقال عز وجل عن نبيه نوح عليه السلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:٦٢].

ويقال: انتصح فلان أي: قبل النصيحة، وقال ابن حجر رحمه الله: النصح هو تخليص الشيء من الشوائب والغش.

فكأنه شبه الناصح بأنه يخلص المنصوح من الغش، ويخلصه من الشوائب التي علقت به وبحاله، كما يخلص العسل من الشمع والشوائب، ومنه قول الله عز وجل: {تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:٨] ما هي التوبة النصوح؟ التوبة الخالصة من شوائب الرياء، والذنوب، والإصرار، وعدم الندم إلى آخره، فالتوبة النصوح من هذا الباب.

النصح هو الخياطة، والمنصحة هي الإبرة، والمعنى: أن الإنسان يلم شعث أخيه يلم ما ظهر من أخيه من عيوب بالنصيحة، كما أن الإبرة تلم الثوب المهتري الذي يراد رتقه، فتأتي هذه الإبرة فتلم شعث هذا الثوب، فكذلك الناصح يلم شعث أخيه وما ظهر منه من العيوب.

قال ابن الأثير رحمه الله: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة، وهي: إرادة الخير للمنصوح له، ذكرنا التعريف في اللغة وهذا هو التعريف في الشرع.

وقال ابن الأثير رحمه الله: فلا يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة غير كلمة النصيحة، أي: بلغ من جماع هذه الكلمة وبلاغتها أنه لا يمكن التعبير عن هذا المعنى بكلمة واحدة إلا كلمة النصيحة.

وقد جاءت هذه اللفظة في القرآن الكريم بصيغ شتى: جاءت بصيغة الفعل، وجاءت بصيغة الاسم والمصدر، فمن ذلك أن الله ذكر هوداً عليه السلام بصيغة الوصف، فقال: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ} [الأعراف:٦٨] بصيغة الوصف، وذكر نوحاً عليه السلام بصيغة الفعل، فقال عز وجل عن نوح عليه السلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:٦٢] أنصح فعل، والفعل يدل على تكرار الحدوث، أي: عندما تقول: أنصح، يعني: أستمر في النصيحة نصيحة بعد نصيحة، وإذا قارنا بين نوح وهود فمن كان أكثر نصحاً لقومه في التكرار؟ نوح؛ لأن الله قال في القرآن: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:٨ - ٩] بالليل والنهار سراً وعلانية، فكان دائماً يكرر، فلذلك جاء التعبير عن دعوة نوح ونصيحته لقومه من شأن الدال على تكرار الحدوث، بينما جاء عن هود عليه السلام بالمصدر الدال على حدوثه حيناً بعد حين، وفترة بعد فترة، وهذه المسألة هي من الأهمية بمكان، فإن الله عز وجل أبلغنا أنها كانت وظيفة الرسل، فقال عن نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٦٢] وظيفة نوح والرسل هي النصيحة بدليل هذه الآية.

وكيف استطاع إبليس لعنه الله أن يخدع أبانا آدم وأمنا حواء عن طريق النصيحة، ما هو الدليل؟ {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:٢١] قال: أنا ناصح وأريد النصيحة هذه {شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:١٢٠] أنا ناصح، فما تبعاه إلا بعد أن قاسمهما {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:٢١] فانظر إلى عمق القضية، وكذلك كيف اقتنع فرعون ومن معه في بيته بأن تأتي أخت موسى لهم بأمه؟ لم يقتنع إلا بعدما دخلت عليه الأخت من باب النصيحة، أن هذه المرأة التي ستأتي بها ناصحة، فقالت أخت موسى لما عجزت النساء عن إرضاع موسى عليه السلام فجلس يتلوى ويبكي قالت لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:١٢] فعند ذلك اقتنعوا وأتي بأم موسى فصارت ترضع ابنها وتأخذ الأجر.

لقد جعل الله النصيحة حيلة العجزة، وعذر القاعدين للضرورة، ورافعة للحرج عنهم في حالة قعودهم، الناس الذين لم يستطيعوا الجهاد بسبب المرض أو الشيخوخة جعل الله عز وجل النصيحة عذراً لهم في القعود، إذا قعدوا ما عليهم حرج بشرط أن ينصحوا، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:٩١] ما عليهم حرج في حالة {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:٩١].

وعن أبي رقية تميم بن أوس الداري -وهو صحابي جليل كني بابنته؛ لأنه لم يكن له غيرها- قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.

لقد عظم الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة فجعلها هي الدين، لماذا؟ لعظمها، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) عرَّف الدين بأنه نصيحة؛ لأن النصيحة هي جل الدين، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة) هل الحج كله عرفة؟ لا.

لكن لعظم عرفة في الحج وهو أعظم ركن في الحج، فقال: (الحج عرفة) كذلك هنا قال: (الدين النصيحة) فإن قلت: يا أخي، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابة: لمن يا رسول الله النصيحة؟ قال: لله، كيف تكون النصيحة لله؟ قد يقول بعض الناس: هل يحتاج الله إلى نصح؟ كيف ينصح العبد ربه؟ فنقول: إن الله تعالى لا يحتاج إلى نصيحة، ولكن النصيحة لله كما قال العلماء: تكون بالإيمان به إيماناً كاملاً بأسمائه وصفاته من غير التعرض لها بأي نوع من أنواع التحريف أو التعطيل أو التشبيه، وطاعة أوامر الله عز وجل والانتهاء عما نهى عنه، وتعظيم حرماته وهكذا، هذه هي نصيحة العبد لربه.

فإن قلت: وما نصيحة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقول لك كما قال أهل العلم في شرح الحديث: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتعظيم حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى أهل بيته وإلى ذريته، والقيام بسنته والذب عنها، وتميز صحيحها من سيقيمها، ونشر السنة بين الناس، هذه نصيحة المؤمن لرسوله صلى الله عليه وسلم.

فإن قلت: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ولكتابه؟ كيف تكون النصيحة للقرآن؟ النصيحة للقرآن هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، والإيمان بمحكمه ومتشابهه، والعمل بالمحكم وتطبيقه في الواقع، وتلاوته حق التلاوة وهكذا، هذه هي النصيحة للقرآن.

أما النصيحة لأئمة المسلمين: فإن كانوا أبراراً يتقون الله عز وجل فإن نصحهم بطاعتهم واتباعهم وتأييدهم، ونصرتهم والجهاد معهم، والقيام بحقوقهم وعدم شق عصا الطاعة عليهم وهكذا.

والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم وتعليمهم وتفقيههم بأمور دينهم.

فانظر رحمك الله كيف جمع هذا الحديث أمور الدين كله، والآن تعلم -يا أخي- كيف كان الدين والنصيحة.