عباد الله لا ينال هذا العلم إلا من جعل همته لله، إلا من ارتفعت همته، وقد سقطت كثير من الهمم هذه الأيام بأمرين عند كثير من الشباب: باللهو والملل.
ما قتل طلب العلم عند الشباب وعند غيرهم أيضاً إلا بأمرين: اللهو والملل، فتراهم يعكفون على وسائل من اللهو، يشتغلون بها عن الشيء الذي خلقوا من أجله، فهذا يتبع ألعاباً ويعبث بها ويضيع وقته بها، وهذا يتبع مباريات ويشاهد مسابقات ويتابع أولمبيات، وهكذا تضيع الأعمار في اللهو، في خروج وسفر لتزجية الوقت وإضاعته، وألعاب قد اخترعت يمضي بها كثير من الناس أوقاتهم بلا حساب.
وأما الملل الذي صار به الشاب لا يستطيع العكوف على الكتاب، سريع الملل، إذا فتحه لم يمكث عنده صفحة أو صفحتين إلا ويشعر بالملل، فيغلق الكتاب، وإذا كان في درسه ربما لا يستطيع أن يستوي قاعداً مطمئناً، فتراه يكثر الحركة يريد القيام، بل ترى كثيراً من العامة في مجالس الذكر أو إذا أُلقيت كلمة بعد صلاة من الصلوات لا يستطيعون أن يجاهدوا أنفسهم ويصابروا في دقائق يجلسونها لسماع العلم، لكن يمكن لهم أن يجلسوا عند المصارعة ساعات، وأن يجلسوا عند الملهيات أياماً طوالاً يتابعون ذلك بغير ملل، وعلم الكتاب والسنة يحصل منه الملل؛ لأن النفوس أسنت بالمعاصي، وفسدت بارتكاب الذنوب، فصارت نتيجة لذلك تنفر من كلام ربها وحديث رسولها، ولكنها لا تمل ولا تكل وتلتذُّ وتصابر في سبيل الاستماع إلى لغو أو مشاهدة لعبة! هذه هي الحقيقة، ولذلك كان لابد للمسلم أن يتجرد لله بالطاعة، وأن يصابر في طلب العلم، تعلو همته، عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: [لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب قلت لشاب من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنتعلم منهم فإنهم اليوم كثير، فقال لي: يا عجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم من فيهم؟! قال ابن عباس: فتركت ذلك الرجل وأقبلت أنا على المسألة، وجعلت أتتبع الصحابة وأسألهم، فإن كنت لآتي الرجل في طلب حديث واحد يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلاً -نائماً نوم القيلولة في بيته- فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح على وجهي التراب حتى يخرج، فإذا خرج قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه منك، قال ابن عباس: فكان ذلك الفتى الأنصاري إذا لقيني بعد يقول: هذا كان أعقل مني].