[استنباط ابن هبيرة الفرق بين قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل) وقوله: (وجاء رجل من أقصى المدينة)]
قال ابن الجوزي: وسمعته يقول -من اللفتات الممتازة التي تدل على ذكائه وفطنته- في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:٢٠] هذه في قصة المؤمن في سورة يس.
وفي الآية الأخرى قال: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:٢٠] وهذه في قصة موسى.
فنلاحظ هنا أن في آية تقديم الرجل، وفي الآية الأخرى تأخير ذكر الرجل.
الرجل صفة مدح: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} [يوسف:١٠٩] {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف:٥٩] {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:٢٠] الرجل في القرآن ورد في سياق المدح، ولذلك لما تمنى أصحاب عمر كل واحد أمنية، قال عمر: [ولكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة] فالرجولة صفة مدح، والله سبحانه وتعالى يطلقها في القرآن على الممدوحين، أو في مقام مدح الرجل.
إذاً: قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:٢٠]، وفي آية أخرى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:٢٠] فما هي الفائدة في التقديم والتأخير؟ يقول رحمه الله: فرأيت الفائدة في تقديم ذكر الرجل وتأخيره أن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ في المدح من تقديم ذكره على وصفه، فإن الناس يقولون: الرئيس الأجل فلان، فيأتي اسمه بعد وصفه، فمثلاً نقول: العالم العلامة الحبر الفهامة فلان، ثم نأتي باسمه، فتتقدم الصفة على الموصوف، هذه رتبة أعلى من تقدم الاسم على الصفة.
فنظرتُ -الآن هذه من ناحية المعنى واللغة والبيان- فإذا الذي زِيْدَ في مدحه هو صاحب سورة يس؛ أَمَرَ بالمعروف، وأعان الرسل، وصبر على القتل، والآخر إنما حذّر موسى من القتل، والرجل الآخر كان فقط ناصحاً جاء وحذَّر موسى من القتل، نعم.
لقد عمل شيئاً عظيماً، وجاء من أقصى المدينة ليقدم لموسى النصيحة ويخبره بالخبر المهم الذي سينبني عليه نجاة موسى وسلامته، ولكن أي الرجلين أعظم؟ الذي في قصة سورة يس أم الذي في قصة موسى؟ الذي في سورة يس أعظم؛ لأنه جاء من أقصى المدينة يسعى، ويقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:٢٠ - ٢٢] وناقش قومه، ونصر الرسل، وأمر بالمعروف، ونهى عن الشرك، وصبر على القتل، هذا أعظم ممن جاء فقط ليبلغ موسى بأن فرعون وجنوده يقتفون أثر موسى ويبحثون عنه.
قال رحمه الله: والآخر إنما حذَّر موسى من القتل، فسلم موسى بقبول مشورته، موسى عليه الصلاة والسلام كان حكيماً، هذا قبل أن يؤتى النبوة، كان عاقلاً لبيباً، لما جاءه يقول: ((إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً} [القصص:٢٠ - ٢١] لم يقل: أذهب أودع أهلي، وأسلم عليهم، ثم أذهب! لا.
المسألة الآن مسألة هرب بالنفس، الهرب بالنفس يحتاج إلى سرعة، ولذلك قال الله عنه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:٢١].
فالأول: هو الآمر بالمعروف -الذي في سورة يس- والناهي عن المنكر.
والثاني: هو ناصح الآمرِ بالمعروف، هو ناصح لموسى، فاستحق الأول الزيادة، الذي في سورة يس، الذي فيه ذكر الوصف قبل ذكر الموصوف.
قال: ثم تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق، وهذه فائدة أيضاً.
فإن بعد المسافة قد يكون مثبطاً للشخص عن الإتيان للدعوة والنصح والتعليم، ونحو ذلك، فكونه يأتي من بعيد ويقطع الطريق فهذا يدل على قوة همته في الحق، وعلى عزيمته في البلاغ، وعلى شفقته وحرصه، ولذلك جاء من أقصى المدينة، ما رآه مصادفةً في الطريق، أو أنه جارٌ له، بل جاء من أقصى المدينة، وقوله: (يسعى) يدل على الاشتداد في الإتيان، أنه ما جاء يتباطأ، جاء مسرعاً للبلاغ، ليلحق بالأمر قبل انفراطه وقبل فوات الأوان.