[موافقة العبد لله فيما يقوله من كلام وأحكام]
كذلك -أيها الإخوة- من العلامات: موافقة العبد لله عز وجل فيما يقوله من كلام وأحكام: وأكبر شاهد على هذه القضية: ما حصل في غزوة الحديبية! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عقد الصلح مع الكفار استشاط بعض المسلمين غضباً لشروط الصلح، وظنوا أن شروط الصلح تملي عليهم أشياء تخالف موقف القوة، وتضعهم في موقف ضعف، هكذا ظنوا؛ ولكن الله أراد أمراً آخر.
وكان عمر بن الخطاب ذا نفسية لا ترضى بالدون، ولا ترضى بالضعف، لَمَّا شاهد الشروط ثار وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: نعم.
قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟!) كيف نوافق على شروط مثل هذه؟! كيف إذا جاءنا المسلم نرده، وإذا ذهب واحد منا من المدينة إلى قريش لا يردونه؟! كيف نوافق على هذه الشروط؟! فماذا أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه -هكذا أمرني ربي- فقال له عمر: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت فنطَّوَّف - نطوف- به؟! فقال عليه الصلاة السلام: أقلت لك أنك تأتيه العام؟) -قلت لك أنك ستأتيه هذا العام الذي عقدنا فيه الصلح؟ - (قال: لا، قال: فإنك آتيه ومُطَّوِّفٌ به) يعني: يا عمر! ستأتي البيت في يوم من الأيام وتطوف به.
فكلام عمر ليس عن عدم اقتناع، وإنما أراد أن يزداد إيماناً، وأن يتثبت في موقفه، ثم ذهب فوجد أبا بكر الصديق فعرض عليه نفس الأسئلة، ولم يعلم أبو بكر بما دار من حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر؛ لأنه كان بعيداً، قال عمر لـ أبي بكر: (ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: نعم.
قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟! قال أبو بكر -بالحرف الواحد-: إنه رسول الله، وهو ناصره، وليس يعصيه) ماذا قال الرسول؟ (إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه) طرح عمر السؤال الثاني، قال: (ألم يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنا سنأتي البيت فنَطَّوَّف به؟! فقال أبو بكر: أقال لك أنك تأتيه العام؟ -ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ -قال: قلتُ لك أنك تأتيه العام؟ توافُق- قال عمر: لا.
-كما قال للرسول صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر له: فإنك آتيه ومطَّوِّف به) ماذا قال عليه الصلاة السلام؟ (فإنك آتيه ومطَّوِّفٌ به).
هذا التوافق -أيها الإخوة- ليس عبثاً، لكن إذا أحب العبدُ اللهَ وفق اللهُ العبدَ فيُجْرِي الحقَّ على لسانه، فلا يَخرج منه إلا الحق.
وعمر كان من أصحاب هذه المرتبة، فلذلك يقول: [وافقت ربي في ثلاث، أو في أربع:].
وافق عمر ربه في ثلاث: - كان يتمنى نزول تحريم الخمر؛ فنزل تحريم الخمر.
- كان يتمنى نزول آية الحجاب؛ فنزلت آية الحجاب.
- كان له موقف من أسارى بدر؛ فنزل القرآن تصديقاً له.
هؤلاء الأولياء -أيها الإخوة- يُجْرِي الله الحق على لسانِهم، فيوافقون الله ورسوله، حتى لو لَمْ يطَّلِعوا، فيوفقهم الله ويسددهم.
ولذلك -أيها الإخوة- كلما قويت مَحبة العبد لله قوي سلطان القلب في الْمَحبة فاقتفى أثر الطاعات، وترك المعاصي والْمُخالَفات.
وممن تصدر المعصية؟ تصدر المعصية ممن ضعفت محبته.
وهناك فرق عظيم بين مَن تَحمله المحبة على فعل الطاعة، وبين مَن يَحمله الخوف من السوط والضرب والعقوبة على فعل الطاعة.
بعض الناس عندما يعمل الطاعة تقول له: لماذا تعمل؟ يقول لك: لأني أخاف إذا ما عملت أن أدخل جهنم، هذا شعور ممدوح؛ لكن هناك شعور أكمل من هذا.
ما هو الشعور الأكمل من هذا؟ أنني أعبد الله عز وجل لأنني أحبه، والذي يحب أحداً يسعى لإرضائه.
أعبد الله لأني أحبه، وأطمع في جنته، وأخاف من ناره، بعض الناس يعبدون الله خوفاً من العقوبة لا حباً له، وهذه مرتبة أدنى من مرتبة الذي يعبد الله مُحِباً له، طائعاً له، طامعاً في جنته، خائفاً من ناره.
ولذلك -أيها الإخوة- المحبة المجردة عن التعظيم تكون ميِّتة، لا يتبعها عمل.
لذلك قال السلف: "من عَبَد الله بالحب وحده؛ فهو زنديق.
ومن عبده بالرجاء وحده؛ فهو مرجئ.
ومن عبده بالخوف وحده؛ فهو حروري ".
الزنادقة المنافقون، إذا قلت لأحدهم تقول: أنت تحب الله؟ يقول: طبعاً نحب الله.
فإذا نظرت إلى واقعه، فهو أسوأ ما يكون! المحبة خرجت من اللسان وليس من القلب.
فالذي يزعم أنه يحب الله فقط بدون عمل فهذا زنديق.
أما الذي يقول: أنا أعبد الله بالرجاء، أتمنى على الله الأماني، وأتمنى أن الله يدخلني الجنة، وأتمنى الفوز بها والنجاة من النار، فهل أنت تعمل لهذا؟ لا يعمل؛ لكن يتمنى على الله الأماني، هذا من المرجئة.