كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى له درسٌ، وكان مهيباً في درسه، ولذلك كان -كما يقول أحمد بن سنان - لا يتحدث في مجلسه أحد، ولا يُبْرَى قلمٌ -الطلبة يجب أن يكونوا متجهزين للدرس قبل أن يبدأ الدرس- ولا يتبسم أحد، ولا يقوم لأحد قائمة، كأن على رءوسهم الطير، يعني: من خشوع شيخهم ومن هيبته، يجلسون كأن على رءوسهم الطير، لا أحد يتحرك، ولا يتبسم، كأن على رءوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم تبسم أو تحدث؛ لبس نعله وخرج، وهذا يعني أنه سيفُوتُ الجميعَ ما يفُوتُ بسبب حركة واحد، الجميع مسئولون عن الجميع.
وهذا توقير منه للعلم رحمه الله لا استكباراً؛ لأن مجلس حديث النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يُتأدب معه، فإنه عليه الصلاة والسلام لو مات، فلا ترفع الأصوات فوق حديثه ولو بعد وفاته، فإذا قُرئ حديثُه، خُفِضت عند حديثه صلى الله عليه وسلم الأصوات، ولذلك فإنه رحمه الله تعالى كان عنده هذا المبدأ في دروسه.
وكذلك فإنه قد حصل مرة من المرات أن أحد الطلاب ضحك في المجلس، فيقول عبد الرحمن بن محمد بن سلام: حدثنا عبد الرحمن بن عمر، قال: ضحك رجلٌ في مجلسه وسمعه.
ولا شك أن من قلة الأدب في مجلس العلم، أو مجلس الحديث أن تقرأ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يضحك شخصٌ! فضحك رجلٌ في مَجلسه وسَمعه، فقال: من هذا الذي يضحك؟ فأعاد مراراً، يقول لهم: من هذا الذي يضحك؟! فأشاروا إلى رجل، فأقبل عليه، وهو يقول: تطلب العلم وأنت تضحك؟! تطلب العلم وأنت تضحك؟! مرتين، لا حدثتكم شهرين، فقام الناس فانصرف.
وكان رحمه الله في ذاته مقتدياً بالنبي عليه الصلاة والسلام في عدم الإغراق في الضحك، فقال الراوي: ولا أعلم أني رأيت عبد الرحمن ضاحكاً شديداً بقهقهة إلا التبسم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر ضحكه تبسماً، فإن خشي عليه أن يغلبه الضحك لشدة الموقف؛ أمسك على فمه رحمه الله تعالى.
وكذلك فإن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كان في مسألة الورع والاحتياط في الكلام في غاية الدقة والانتباه.
قال عبد الرحمن بن عمر: وسمعت عبد الرحمن قال لرجل: لا أفعل.
ثم سأله الرجل.
فقال: إني قد قلت: لا أفعل.
قال: إنك لم تحلف، فماذا يمنعك أن تفعل؟ قال: هذا أشد، لو حلفتُ، لكفَّرت.