[الرد على من قال: لا إنكار في مسائل الخلاف]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً على طاعة الله، وأن يعقبه مغفرة من الله، وأن تنزل علينا فيه ملائكة الله، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المقبولين عنده، ومن الذين رفع درجتهم وغفر ذنوبهم، وأبدل سيئاتهم حسنات.
إخواني: إن الله عز وجل خلق عقل الإنسان، ومن حكمته سبحانه وتعالى أن جعل هذا الإنسان يفكر، وأن ترد على ذهنه الأسئلة التي تثير عنده حب المعرفة والتعلم، ولولا استثارة الذهن لفقد الإنسان جزءاً كبيراً من علمه؛ لأن الإنسان يتعلم بالتلقي والتلقين، ولكنه أيضاً يتعلم بطريقة السؤال، ولذلك يقول أحد السلف رحمه الله: العلوم خزائن والسؤالات مفاتيحها، والعقل المتوقد هو الذي لا تمر به الأمور هكذا، ويتلقى أي شيء يسمعه أو يقال له من دون قناعة ولا دليل ولا تساؤل، والإنسان البليد هو الذي يقبل كل شيء بغير تروٍ وبغير تساؤل ودليل، وبغير محاولة للتفهم والاقتناع بما يسمع وبما يقال له أو بما يقرأ.
ونحن قد خصصنا هذا الدرس للإجابة على تساؤلات دارت في أذهان البعض، وأسئلة متراكمة كثيرة من المرات السابقة، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الفائدة لنا جميعاً، وبعض هذه الأسئلة أسئلة تصورية، وبعضها فقهية عن الأحكام الشرعية، وأيضاً هناك أسئلة تتعلق بمشكلات اجتماعية موجودة في الواقع الذي نحيا فيه.
السؤال
يقول: هل القاعدة التي تقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، هل هي قاعدة صحيحة أم لا؟
الجواب
هذه المقولة تتردد على ألسنة الكثيرين، فإذا حصل خلاف في مسألة يقوم واحد ويقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، ودع الناس كل واحد يأخذ بالقول الذي يرتاح إليه ويعجبه، ولا تنكر على أحد، وكل واحد معذور في فناعاته التي وصل إليها.
ونقول أيها الإخوة: إن فهم هؤلاء الناس الذين يقولون بهذا فيه خطأ كبير، فإن القاعدة الصحيحة أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف ممن ليس لهم تحقيق في العلم، والصواب ما عليه الأئمة؛ أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها.
والمعنى: أن بعض الناس يقول: أي مسألة حصل فيها خلاف فلا مشكلة، فإذا حصل خلاف مثلاً في مسألة الوضوء من لحم الإبل فلا إشكال، فالذي يرى أن الوضوء من لحم الإبل يجب وجب عليه أن يتوضأ، والذي لا يرى الوضوء من لحم الإبل فلا يجب عليه أن يتوضأ، والذي يرى أن الزكاة في حلي الذهب واجبة عليه زكاه، والذي لا يرى أنها واجبة فليس عليه ذلك، وهكذا.
ونقول: ليس هذا صحيحاً على إطلاقه؛ لأن بعض المسائل فيها خلاف، وقلما تجد مسألة ليس فيها خلاف، صحيح أن هناك طائفة كبيرة من المسائل ليس فيها خلاف، لكن الناس الذين يتبعون الرخص يبحثون عن أسهل قولٍ في المسألة، فيقال له: القول الفلاني، فيقول: إذاً أتبعه، ومن ثم إذا جئت تنكر عليه، يقول: لا يا أخي، هذه مسألة اختلف فيها العلماء، وأنا حر، أخذت بالقول الذي أريده، والقول الذي أرتاح له فلا تنكر عليّ.
ونقول: ليست القاعدة الصحيحة أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وإنما القاعدة الصحيحة لا إنكار في مسائل الاجتهاد، والفرق أن المسائل التي فيها دليل قطعي فحتى لو حصل فيها خلاف فالخلاف هنا غير معتبر، أما إذا حصل خلاف في مسألة اجتهادية ليس فيها دليل قطعي، ولا سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من العلماء، وهي في مجال الاجتهاد فنقول هنا: نتباحث ونتناقش لكن لا ينكر أحد على أحد.
قد يقول إنسان: هل هناك مسائل حدث فيها خلاف بين أهل العلم وفيها دليل واضح؟ نقول: نعم.
هناك مسائل كثيرة ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، قال: والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين في كثير، مثل: كون الحامل تعتد بوضع الحمل.
قبل أيام جاء سؤال: امرأة حامل مات زوجها في الصباح وولدت في الليل، كم عدتها؟ والجواب: بمجرد وضع الحمل تنتهي العدة، قال تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:٤].
ومثل: إن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول فيمن طلق زوجته طلقة ثالثة بائنة وتزوجها رجل آخر، فلا تحل للأول حتى يصيبها الزوج الثاني، وعدم إصابة الزوج الثاني وتطليقها ليتزوجها الأول وهو المعروف بالتيس المستعار (لعن الله المحلل والمحلل له).
ومثل: أن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل.
وقد حصل فيها خلاف، ولكن الدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن جهدها فقد وجب عليه الغسل أنزل أو لم ينزل).
وإن المتعة حرام، فزواج المتعة حصل فيه خلاف، لكن الأدلة واضحة على أن زواج المتعة حرام، فلا يأتي واحد يقول: أنا حر والمسألة فيها خلاف، ويأخذ بجواز نكاح المتعة، نقول له: خطأ ولا يجوز، والخلاف فيها غير معتبر، والدليل فيها واضح.
وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون تطبيق اليدين ووضعهما بين الفخذين كما ورد ذلك وقد نسخ، وأن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه سنة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رئي وبيص الطيب في مفرق رأسه وهو محرم؛ لأنه كان قد وضعه قبل الإحرام، فإذا أحرم وعليه الطيب فلا يلزمه غسله، لكن لا يجوز أن يضع طيباً جديداً بعد الإحرام.
وأضعاف أضعاف ذلك من المسائل.
ولا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها، لا عذر له عند الله إذا نبذه وراءه ظهريا، وقلد من نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وهذه مشكلة متعصبة المذاهب، يقيمون على أقوال في مذاهبهم مخالفة للدليل، ويقول لك: قال إمامي، نقول: إمامك يقول: إذا رأيت الدليل يخالف قولي فاضرب بقولي عرض الحائط وخذ بالدليل.
وهذه أيضاً مشكلة بعض الإسلاميين الذين يعتقدون أن المجال واسع في الاختلاف، وأن هناك مجالس لوحدة المسلمين، أو لوحدة المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة وغيرهم؛ فيقال: نتفق على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وهذه القاعدة كما ذكر الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله ليست من قواعد أهل السنة والجماعة، ولا تعرف أنها من قواعد أهل السنة والجماعة، وإنما نتفق على الأصول الصحيحة من الكتاب والسنة في أبواب العقيدة واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الأشياء، ولا نقول: هذا مبتدع وأنا من أهل السنة، ونحن نؤمن بوجود الله، إذاً نجتمع على وجود الله، ولا يمكن أن ينصر الله خليطاً فيهم هذه الأجناس وهذه التفكيرات العجيبة والقناعات اللاشرعية.