[أهمية الاستشارة وفوائدها]
السؤال الآن: لماذا نستشير؟ وما هي أهمية وفوائد الاستشارة؟ الفائدة الأولى: اتباع الأثر: فنحن المسلمين نتبع ونقتفي آثار من مضى، (عليكم بالأمر العتيق).
ونحن أيضاً ننفذ ما أمرنا الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الله لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لنا، فيعني ذلك: أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم في المشورة.
وإذا كان الله أثنى على المؤمنين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:٣٨] ونحن من ضمن المؤمنين، فإذاً لابد أن نطبق هذه المسألة، أضف إلى ذلك أن هذا التطبيق فيه أجر التنفيذ لهذا الأمر الوارد، وإذا تشبهنا بالمؤمنين وبخصالهم فسنكون منهم إن شاء الله.
الفائدة الثانية: بالإضافة إلى التطبيق والأجر الحاصل: استنباط الصواب، فإن من أعز الأشياء أن تهتدي إلى الأمر الصحيح والحق والصواب.
فأنت ماذا تريد وعم تبحث؟ ألست تبحث عن الصواب في الأمر الذي تحتار فيه، وتريد أن تقدم عليه؟ عن الحسن قال: [والله ما استشار قوم قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم، ثم تلا: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) [الشورى:٣٨]].
وينبغي أن تكثر أيها الأخ المسلم من استشارة ذوي الألباب، لاسيما في الأمر الجليل، فقلما يضل عن الجماعة رأي أو يذهب عنهم صواب، لأن إرسال الخواطر الثاقبة، وإجالة الأفكار الصادقة هذا هو الذي يجعلك تصل إلى الصواب، ومن أكثر المشورة لم يعدم الصواب، والخطأ إلى الجماعة أبعد من الخطأ إلى الفرد، لأن احتمال أن يخطئ الفرد أكثر من أن تخطئ جماعة من الناس.
الفائدة الثالثة: اكتساب الرأي: إن الإنسان إذا شاور وحاور وتناقش وطلب الأمر وقلَّبه على وجوهه، فإن هذه المناقشة مع الآخرين تكسبه رأياً وتُوسع مداركه، وتجعله يعرف من أين تؤتى الأمور، وما هي طريقة تفكير فلان وفلان، ويعرف أن فكره قد انصرف إلى جانب معين، وأن هناك جوانباً أخرى؛ فتتوسع مداركه، ويكتسب طرق في التفكير لم يكن ليهتدي إليها لولا الاستشارة.
وقال بعض الحكماء: "نصف رأيك مع أخيك، فشاوره يكمل لك الرأي".
خليلي ليس الرأي في صدر واحدٍ أشيرا عليّ بالذي تريان
ومن حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فرأي الفرد الواحد ربما زلّ، والعقل الفرد ربما ضلّ، ولكن عندما تجتمع العقول تصل إلى المأمول، وروي عن بعض السلف: "الرأي الفرد كالخيط السحيب -الخيط الرقيق الذي سرعان ما ينقطع- والرأيان كالخيطين المبرمين -أقوى قليلاً- والثلاثة مرار -وهو الحبل المفتول لا يكاد ينتقض- والمستشير الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار".
الفائدة الرابعة: أنك تتحصن من الوقوع في الخطأ والزلل باستشارتك، قال حكيم لابنه: "شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من أمره ما قام عليه بالغلاء وأنت تأخذه مجاناً".
الله أكبر! هذه هي الحكمة، الآن الشاب في مقتبل عمره تجاربه محدودة وقليلة، وحتى يكتسب تجارب فإنه يحتاج إلى وقت وجهد، وربما يقع في أخطاء كثيرة حتى يصل في النهاية إلى الرأي الحكيم وإلى الصواب في أمرٍ من الأمور، فعندما يذهب إلى شيخ مجرب وإنسان قد عركته الحياة، فإنه يأخذ منه الخلاصة التي توصل إليها هذا الشيخ؛ فهذا الشيخ يكون قد توصل إلى الحكمة والتجربة والخلاصة والصواب، ودفع كثيراً من الجهد والوقت حتى وصل إليه بالغلاء، وأنت تأتي وتأخذه بالمجان، فانظر إلى عظم هذه الاستشارة وعلو موقعها.
الفائدة الخامسة: أنها حرزٌ من الملامة، فلو أن شخصاً فعل أمراً من الأمور، ثم تبين له أن هذا الأمر خطأ، وظهرت النتائج عكسية وسيئة وفشِل، ماذا سيقول له الناس؟ لماذا لم تشاور؟ أنت مخطئ، أنت وأنت وتوجه إليه سهام الانتقاد من كل جانب ويلام، لكن عندما يكون هذا الشخص قد استشار مجموعة من الناس الحكماء والخبراء، ثم يخطئ وتكون النتيجة عكسية، هل سيلومه الناس؟ لن يلوموه لأنه استشار، ولو لاموه لقال لهم: أنا سألت فلاناً وفلاناً وهم الذين أشاروا عليّ بهذا الأمر؛ حينها كلهم يسكتون، لكن لو لم يشاور لظل عرضه للنقد من كل جانب.
الفائدة السادسة: أنها نجاة من الندامة، أن الشخص الآن فعل أمراً دون أن يستشير ثم فشل في هذا الأمر، فسيشعر بالندم ولو من توبيخ نفسه له وهي تقول له: لو أنك سألت ما حصل هذا! ولو أنك استشرت ما وصلت إلى هذه النتيجة المخيبة للأمل، فيشعر بالندم.
لكن عندما يستشير حتى لو أخطأ، فيقول لنفسه: هذا أمر خارج عن إرادتي، أنا استشرت وأخذت بالأسباب ثم أخطأت، والحمد لله هذا ليس رأيي فقط، فهو ينجو حتى من لوم نفسه، وعندما يستشير الإنسان ويخطئ؛ فإنه يعلم أن هذا الأمر قضاء وقدر، لكن لم يخطئ في الخطوات التي وصلت إلى هذه النتيجة، فيعلم أنه لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً، استشار فحصل خطأ، فلا يلوم نفسه.
الفائدة السابعة: ألفة القلوب: فأنت الآن عندما تستشير اثنين وثلاثة، وعندما تذهب إليهم، وتقول: يا أخي! أشر علي في هذه القضية، يا أيها الوالد! أشر عليّ في هذه القضية، يا أيها الأستاذ! أشر عليّ، يا أيها الصديق، فكيف تكون نظرة الناس إليك؟ وما هو الانطباع الذي يكون في نفوسهم تجاهك وأنت تستشيرهم؟ وبماذا سيشعرون؟ سيشرعون لك بتقدير ومحبة، ويقولون: فلان ما استشارنا إلا لأنه يعتقد أننا أصحاب رأي، وأننا أمناء فلان ليس بمنعزل عنا فلان متداخل معنا فلان يثق فينا وإلا لما استشارنا، فهذه تقرب ما بين القلوب، وتربط ما بين الناس، وفيها تقدير للأطراف المستشارة، وأنك تقدره وتضعه في موضع أنك تستشيره، ولذلك يقول عبد الملك بن مروان: لأن أخطئ وقد استشرت، أحب إلي أن أصيب وقد استبددت برأيي.
الفائدة الثامنة: أن القائد والمربي والداعية إلى الله والذي يقود الناس يكون تواقاً لمعرفة الحق وما فيه من المصلحة، ويلح بنفسه على جنوده لإظهار ما عندهم من الحجج والأدلة والآراء، ويسمعها ويقلِّب وجهات نظرهم طمعاً إلى الوصول لما فيه الصالح العام، وعندما يحدث الفشل فإنه يكون موزعاً على جميع الجند والناس الذين استشيروا، فلا يشعر الإنسان أنه يتحمل الخطأ لوحده.
وكذلك فإنه يصل إلى مدى نضجهم، ويعرف مستوى تفكيرهم وعمق آرائهم، ويميز بالاستشارة كيف يشير فلان، وكيف يفكر فلان، فيعرف النوابغ من الناس الذين يعيش بينهم، ويكتشف الطاقات والمواهب التي فيهم.
وهذا الأمر من الأمور المهمة لمن كان يريد أن يسوس الناس بالهدي الصحيح، لأن هناك أناساً يسوسون الناس -بغض النظر عما يكون في أفكارهم من الآراء- ولا يعرفون من هو الناضج من غيره، ومن هو الذكي ممن هو واسع الأفق، ومن هو الشخص صاحب الرأي الصحيح والمشورة الطيبة ممن هو ليس كذلك، فهو بسبب أنه لا يعرف من يستشير، أو قلما يستشير يقع في الخطأ، وأنت لا تكتشف أن فلاناً هذا إنسان يؤخذ برأيه إلا عندما تستشير فيشير عليك برأي، فتعرف رجاحة عقله من خلال رأيه.