للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقارنة بين منظار الشرع والبشر إلى الفقر]

ما هو رأينا؟ وماذا نقول؟ وما هي وجهة نظرنا، إذا رأينا شخصاً فقيراً عليه أسمال بالية، وثيابه رثة، وهيئته محقورة، وهو ضعيف، وليس له منزلة، ولا أحد يعطيه وجهاً كما يقول العامة، ما هو رأينا فيه؟ ما هي نظرتنا له؟ روى البخاري رحمه الله عن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف) الناس يتضعفونه لضعفه، كل يظلمه ويحقره ولا يبالي به ولا يعطيه وزناً ولا قيمة، هؤلاء أهل الجنة: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره) من عظمه عند الله ومنزلته ومكانته، لو قال: أقسمت عليك يا رب أن تفعل كذا، لبر الله بقسمه وفعل.

(ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل -أي: جافٍ شديد الخصومة بالباطل- جواظ) أي: فظ غليظ متكبر في مشيته، ومستكبر كما دلت عليه الصفتان السابقتان.

وفي رواية أحمد: (ألا أخبركم بأهل النار وأهل الجنة؟ أما أهل الجنة فكل ضعيف متضعف أشعث ذي طمرين -ثوبين باليين- لو أقسم على الله لأبره، وأما أهل النار فكل جعضري -وهو الغليظ المتكبر- جواظ -المختال في مشيته وقيل: كثير اللحم- جمّاع -يجمع الأموال- منّاع -يمنع حق الله فيها- ذي تبع -أي: له أتباع وعشيرة ويتبعه كثير من الناس) هذه صفة من صفات أهل النار.

وفي رواية ابن ماجة عن معاذ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك عن ملوك الجنة؟ قلت: بلى، قال: رجل ضعيف مستضعف ذو طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تجلية هذا الموقف لأصحابه، فقد روى البخاري رحمه الله عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟) والنبي عليه الصلاة والسلام يُوحى إليه، فكان يعلم حال هذا الرجل أنه منافق أو كافر أو فاجر، فقال: (ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع إن يُشفع -إذا توسط لأحد أن يقبل كلامه قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيك في هذا؟ قال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) أي: الذي ولى أولاً.

وفي رواية ابن ماجة: (مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: رأينا في هذا نقوله: هذا من أشرف الناس، هذا حري إن خطب أن يُخطب، وإن شفع أن يُشفع، وإن قال إن يُسمع لقوله، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ومر رجلٌ آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا؟ قالوا: نقول: والله يا رسول الله! هذا من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب لم ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لهذا خير من ملء الأرض من مثل هذا).

ونحن ننظر إلى الناس غالباً من مناظير دنيوية، نقول: هذا رجل صاحب منصب، هذا رجل غني، هذا رجل قوي، هذا رجل جميل الخلقة، هذا ذو مرة، وهو عند الله قد يكون من أحقر الناس، وإذا نظرنا إلى شخص فقير ضعيف لا مكانة له ولا وظيفة، أو كما يقول العامة: لا وجه ولا جاه، ماذا نعتقد فيه؟ وبأي عين ننظر إليه؟ وكيف نعامله، ونستقبله في مجالسنا؟ وكيف نسلم عليه، وكيف نكلمه؟ بناءً على موازيننا نتعامل، فهذا العظيم الغني صاحب المنصب، نقوم له، ونجله، ونرحب به، ونسمع كلامه، ونلبي طلبه، وهذا الضعيف المستضعف الفقير، إذا دخل المجلس لا أحد يلتفت إليه، ولا يأبه به، ولو طلب طلباً قاطعنا كلامه، ولا نلبيه، وربما طردناه، لماذا؟ لأن نظرتنا دنيوية أيها الإخوة! نظرتنا ليست بميزان الشرع.

هذا الذي نريد أن نعدله، النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أن يربي هذا المفهوم في نفوس أصحابه، فقد روى أحمد، قال الهيثمي بأسانيد ورجالها رجال الصحيح: عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! ارفع بصرك فانظر أرفع رجل تراه في المسجد -أعلى رجل منزلة- قال: فنظرت -استعرضت الناس في المسجد- فإذا رجل جالس عليه حلة -أي: ثوب من قطعتين نفيس -فقلت: هذا أرفع رجل، فقال: يا أبا ذر! ارفع بصرك فانظر أوضع رجل تراه في المسجد، فنظرت، فإذا رجل ضعيف عليه أخلاق -أي ثياب قديمة بالية- قال: فقلت: هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لهذا أفضل عند الله يوم القيامة من قراب الأرض - أي: ملئها وقدرها- مثل هذا).