للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أول خطبة جمعة في بيت المقدس]

ولما كان يوم الجمعة التالية لجمعة الفتح؛ لأنه دخلها يوم جمعة، لكنهم صلوا ظهراً ولم يتمكنوا من صلاة الجمعة، حضر المسلمون الحرم الشريف فغص بالزحام، وتسامع الناس من سائر الأطراف بفتح بيت المقدس، وتوافدوا من كل صقع وفج ليحظوا بمشاهدة هذا الفتح العظيم، فاجتمع من أهل الإسلام عدد لا يقع لهم إحصاء، وامتلأت ساحات المسجد بالخلائق، واستعبرت العيون من شدة الفرح، وخشعت الأصوات، ووجلت القلوب، وأخذ الناس من ذلك الموقف أُهبته، وعرض أناس يخطبوا والسلطان ساكت لم يعين خطيباً، حتى إذا حان وقت الخطبة قدم محيي الدين بن زكي الدين القاضي، فقام فخطب على المنبر في هذا الحشد العظيم خطبة بديعة جداً، استهلها بقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥] ثم تلا الآيات التي في بدايتها الحمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٢ - ٤].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:١١١].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:١] {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:١].

الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدَّر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهيره بيت المقدس من أدناس الشرك وأوباره، لم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دافع الشرك وداحض الإثم، الذي أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر إلى آخره.

ثم قال: أيها الناس! أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا؛ لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله فيه أن يرفع اسمه إلى أن قال: وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين، ولا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموت إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاركم الله من عباده واصطفاهم من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجارٍ، فجزاكم الله عن محمدٍ نبيه أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منا ومنكم ما تقربتم به إليه من إهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء.

ثم قال لهم: فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله بواجب شكرها.

ثم قال: أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في خطابه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:١]؟! أليس هو البيت الذي عظمته الملوك وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة من إلهكم عز وجل؟! أليس هو البيت الذي أمسك الله فيه الشمس على يوشع قبل أن تهرب ليفتح عليه؟!! أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه منهم إلا رجلان ورفض الباقون؟! فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وفضلكم على العالمين.

إلى آخر الخطاب المشهور، الذي أمرهم فيه وحرضهم على حفظ النعمة ومواصلة الجهاد، وكانت خطبة عظيمة بكى الناس فيها في ذلك المكان، وضج المسجد على كبره بالبكاء، وشكر الناس الله عز وجل على هذا الفتح العظيم، وأرسل صلاح الدين الرسل والكتب والبشائر إلى أنحاء العالم الإسلامي، وصدر كتابه إلى الخليفة العباسي بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:٥٥].