أما بالنسبة لسمته وأخلاقه: الإمام أحمد رحمه الله نقل عبارة: أصل العلم خشية الله، وبرؤية العالم يُعرف من شكله وسمته، وهكذا قال بعض من واجهوه، وكان من عنايته بالعلم يقول ابنه عنه: قال لي أبي: لا توجد آية في القرآن إلا درستها على حدة، وأخبرني وكذلك قال أحد تلاميذه: كل آية قال فيها الأقدمون شيئاً فهو عندي، هذا لم يتباه به في مجالس أمام الناس بل قاله لولده، وقاله لأحد أصحابه خاصةً، وكان يلهج دائماً بالوصية، يقول ولده: سألت أبي: ما الذي يطرد وساوس الشيطان؟ قال: التدبر في كتاب الله.
وبهذه الوصية افتتح كتابه وبه ختمه، الوصية بتدبر القرآن، وفي قوله تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:٢٤] كلام طويل له رحمه الله في هذا، وكان مُتبعاً للسنة، إذا عرف الدليل اتبعه، وكان يقول لبعض الحجاج والزوار من بلده، وكان أهل بلده مذهبهم مالكي، يقول: أنا المالكي لا أنتم، لأني آخذ بالدليل متبعاً في ذلك الإمام مالك رحمه الله لا متعصباً له، ولما سأله بعض تلاميذه أن يدرسوا عليه، قال: ادرسوا عليّ البخاري ومسلماً، ما بين أهمية اعتماده على السنة وتمسكه بها، لكن منيته عاجلت فلم يتحقق تدريسه للبخاري ومسلم في ذلك الموقف.
وكان يجلس في المجلس فيأتي الضيف ولا يشعر به، حتى ينبهه ابنه إلى قدوم الضيف، لانشغال فكره بتجميع شواهد من كتاب الله تعالى، ومنذ أن كان في بلده معروفاً بكثرة التأمل، والعالِم لا بد أن يتأمل، والتأمل شيء ضروري، يقول هو: جئت للشيخ لقراءتي عليه، فشرح لي كما كان يشرح ولكن لم يشفِ ما في نفسي على ما تعودت، ولم يروِ لي ظمئي -هذا كان وهو يطلب العلم- وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس، وكان الوقت ظهراً، فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر، فلم أفرغ من حاجتي، فعاودت حتى المغرب فلم انتهِ، فأوقد لي خادمي أعواداً من الحطب، أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب، وواصلت المطالعة، وأتناول الشاي الأخضر كلما مللت أو كسلت، والخادم بجواري يوقد الضوء حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام، وإلى أن ارتفع النهار، وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي، فتركت المطالعة ونمت.
هي مسألة واحدة، هكذا جرى فيها من بعد درس شيخه إلى عصر اليوم التالي رحمه الله تعالى، درس فيها في الليل على ضوء المشاعل، وفي النهار في ضوء النهار، وكان رحمه الله شديد التباعد عن الفتوى، وإذا اضطر يقول: لا أتحمل في ذمتي شيئاً، العلماء يقولون: كذا وكذا، وقال: إن الإنسان في عافية ما لم يبتل، والسؤال ابتلاء، لأنك تقول عن الله، أن الله حرم وحلل، ولا تدري أنك تصيب حكم الله أم لا، فما لم يكن عليه نص قاطع من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وجب التحفظ فيه، ويستشهد بقول الشاعر:
إذا ما قتلت الشيء علماً فقل به ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
فمن كان يهوى أن يرى متصدراً ويكره (لا أدري) أصيبت مقاتله
وجاءه وفد من الكويت في آخر حياته فسألوه عن مسائل فقال: أجيبكم بكتاب الله، ثم جلس مستوفزاً فقال: الله أعلم، هذا الجواب.
قال: أجيبكم بكتاب الله، ثم قال: الله أعلم، قال الله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:٣٦] لا أعلم فيها عن الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم شيء، وكلام الناس لا أضعه في ذمتي، فلما ألحوا عليه، قالوا: فلان قال كذا -أي من العلماء- قال: وأنا لا أقول شيئاً.