للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأجر أكثر من العمل]

من فوائده: أن المخلص ينال من الأجر بإخلاصه أكثر من عمله، بل ربما ينال أجراً ولا يعمل عملاً؛ فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أقواماً خلفنا بـ المدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر) أناس جلسوا في المدينة وما خرجوا في الجهاد، لكنهم مع الجيش في أجرهم والفوز الذي أعده الله، فقد كانوا يريدون الخروج في الجهاد لكن حبسهم العذر، فلم يستطيعوا الخروج، هؤلاء: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:٩٢] ليس عنده ما يشتري به الدابة والسلاح، ولا يستطيع الخروج فيبكي؛ لأنه يريد الجهاد ولا يستطيع، فهو متأثر لأنه قد منع من حاجته وإرادته للجهاد بأعذارٍ شرعية لم يستطع من أجلها الخروج في سبيل الله (لقد تركتم بـ المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادي إلا وهم معكم قالوا: يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بـ المدينة؟ قال: حبسهم العذر -ما استطاعوا الخروج- وإلا فهم يريدون الخروج، علم الله من صدق نياتهم ما أعطاهم به الأجر وهم قاعدون في بيوتهم).

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدرٍ ومن أقام على عذرٍ فقد راحا

بعض الناس في أقطار الأرض يودون الذهاب إلى الحج والعمرة لكن لا يستطيع، ليس عنده نفقة أو لم تتيسر له الإجراءات اللازمة للحج ولكنه يريد الحج، والله يعلم من نفس هذا الرجل أنه يريد الحج أو يريد العمرة فيكتب له أجر الحاج والمعتمر وهو قاعد في بيته، بسبب إخلاصه.

(من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن ثابت رضي الله عنه لما تجهز للغزو معه عليه الصلاة والسلام فمات قبل أن يخرج (إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته).

مثالٌ آخر: عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه من ربه) وأحدهم أراد أن يقوم الليل بصدق واستعد، لكن غلبته عينه، فأكمل النوم إلى الفجر، فلم يقم برغم نيته الصادقة، فله أجر قيام الليل والنوم صدقة من ربه عليه، حديث صحيح.

ولذلك -أيها الإخوة- تصحيح النية ومراعاتها مسألة مهمة جداً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٌ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً؛ لعملت بعمل فلان) لو كان عندي مال لتصدقت، وأخرجت زكاته، ووصلت رحمي من هذا المال، وأنفقت على أقربائي، وعملت أشياء من أعمال البر والخير، وكفلت أيتاماً، وعلمت للمسلمين أموراً ينتفعون بها، تصدقت بها في سبيل الله، وطبعت كتباً، وأوقفت مصاحف للمساجد، وعملت وعملت فهو يتمنى أنه لو كان له ذلك المال لعمل به في هذا، فإذا صدق الله في نيته تلك، فإن الله يعطيه على قدر نيته، فيقول عليه الصلاة والسلام: (فأجرهما سواء) أجر الذي عنده وأنفق، وأجر الذي ليس عنده ونوى لو كان عنده لأنفق مثل صاحبه أجرهما سواء.

وفي نفس الوقت (عبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل، ورجل قال: لو أن عندي مالاً مثل فلان لعملت بعمل فلان) لو كان عندي مال كنت سافرت إلى الخارج وفسقت وفعلت الفواحش، واستأجرت فرق الغناء والطرب، وعملت وليمة فيها من المعاصي والفسق مثلما عمل فلان، ويرى خاتماً ذهب في يد رجل فيقول: لو كان عندي مال لاشتريت مثله، هذا الرجل الذي يتمنى بقلبه هذا الأمنيات لو أن الله أعطاه مالاً فهو شريك ذلك الرجل في الوزر قال: (فهما في الوزر سواء) مع أنه ما عمل لكن نيته هذه نية عازمة، فلو أن الله أعطاه مالاً لعمل فيه من المعاصي مثلما عمل ذلك الفاجر.