[ما حرم الله إطلاق البصر إلا لمصلحتنا]
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين والآخرين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحق وجعل الظلمات والنور، الحمد لله الذي استوى على عرشه، الحمد لله كما ينبغي له سبحانه وتعالى، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير.
أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن العاقل يناظر الشيطان ويقول: لماذا أنظر فإن كان قبيحاً أو كانت قبيحة أغتم وتأسف وآثم بالقصد إلى النظر لأنه قد اتضح بأن المسألة لا تساوي، وإن كانت حسنة جميلة فكيف أنظر وليس بالحلال فأبوء بعاجل الإثم والحسرة؟! وكذلك فإن كل نظرة يهواها القلب لا خير فيها، ولنعلم بأن النظرة سهم مسموم يسري السم إلى القلب فيعمل في الباطن قبل أن يرى عمله في الظاهر.
فاحذر يا عبد الله من النظر فإنه سبب الآفات، وعلاجه سهل في أول الأمر صعب جداً في منتهاه.
وخذ هذا المثل: لو كنت على دابة فدخلت الدابة في زقاق ضيق لا تتمكن من الدوران فيه، فإن صحت بها في أول الأمر وزجرتها رجعت بسهولة قبل أن تكمل الدخول، وأما إذا أكملت دخولها وصارت داخل السرداب والزقاق الضيق فكيف تخرجها فلا يمكن الاستدارة ولا الرجوع ولا شدها من ذنبها، فكيف الخروج؟ وهكذا الأمر إذا غض الإنسان البصر من أول أمره، أما إذا تساهل وأطلق وكرر فعند ذلك الهلاك ولابد الهلاك ولابد.
أيها المسلمون: إن النظر أصل لعامة المصائب التي تصيب الإنسان من هذه الشهوات المحرمة، فالنظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تصبح عزيمة، والعزيمة تولد الفعل وتجعله واقعة:
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
كمن أرسل لحظات فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلاً
النظر يورث الحسرة لأن الإنسان يرى ما ليس قادراً عليه ولا صادراً عنه، وهذا من أعظم العذاب أن ينظر إلى صورة امرأة ليس قادراً عليها، قد تكون متزوجة قد لا يمكنه أن يقربها ولا أن يخطبها ثم بعد ذلك لا يصبر عنها فأي عذاب أعظم من هذا؟
وكنت كلما أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابر
لا قادر ولا صابر وهذا هو العذاب الذي يأتي به النظر إلى الصور المحرمة، ولذلك يتعب القلب من كثرة النظر، واسأل المجربين في هذا المجال لتستمع إلى قصص عجيبة من العذاب الذي ابتلوا به نتيجة عدم غض البصر، وقد يعاقب الله عليه في الدنيا وهذا أسهل.
جاء رجل إلى أحد الصالحين وفي وجهه جرح، فقال: ما لك؟ قال: مرت بي امرأة فنظرت إليها فلم أزل أتبعها بصري فاستقبلني جدار فضربني فصنع بي ما ترى، فقال: إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً عجل العقوبة له في الدنيا.
أيها المسلمون: إن الله تعالى إذا حرم أمراً فامتنع العبد عنه فلابد أن يأتيه الله تعالى بخير منه: (ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوضه خيراً منه) خيراً منه بسعادة في القلب، خيراً منه بأجر يوم القيامة، خيراً منه بأن يكون من أصحاب الفراسة؛ لأن إصابة الحق لا تكون للواقعين في المعاصي: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:٣٥] يعني: في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:٣٥] يورثه الله تعالى ويعوضه عز وجل عن غض بصره بشجاعة وقوة قلبه، ويجمع الله عليه أمره، وينور له بصيرته، ويسد عليه طرق الشيطان، فإن الشيطان يزين الصورة في القلب ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي فيها وهج النار.
اسأل العشاق الذين وقعوا في عشق الصور، اسأل الذين ابتلوا بهذه الأدواء، وهجٌ كوهج النار وتلك الزفرات والحرقات فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب فهو وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كان عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جُعل لهم في البرزخ تنور من نار تودع فيه أرواحهم إلى حين حشر أجسادهم يعذبون في ذلك كما جاء في الحديث الصحيح.
إن القلب الذي فيه خواطر حسنة، القلب الذي فيه استنباطات فقهية، القلب الذي يعرف المصلحة، القلب الذي يختار الحق ليس قلباً مليئاً بالصور المحرمة الناتجة عن النظر إلى الحرام.