كذلك من عوامل نجاح النصيحة: اقترانها بالموعظة التي فيها تذكير بالله، وتذكير بالجنة والنار لها نماذج كثيرة في عهد السلف رضوان الله عليهم، ومن بعدهم من الصلحاء الناصحين والعلماء.
خطاب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز، وخطاب سفيان الثوري إلى هارون الرشيد من النصائح المؤثرة جداً، وتجد فيها مواعظ كثيرة وتذكير بالله عز وجل، ولذلك ترى أثر خطاب سفيان الثوري على هارون الرشيد وخطاب الحسن البصري على عمر بن عبد العزيز كان قوياً جداً لاقتران هذه النصائح بالموعظة، وأنا أسوق لكم الآن نموذجاً واحداً من النصائح التي حصلت في بلاد الأندلس.
لما بنى عبد الرحمن الناصر مدينته الخالدة الزهراء في الأندلس تفنن في بنائها وجعلها من أعاجيب المدن في العالم، وكان مما بناه فيها الصرح الممرد، اتخذ قبته قراميد من ذهب وفضة حتى أنفق عليها من خزينة الدولة مالاًَ عظيماً، وكان في قرطبة عالمها الفقيه الجريء المنذر بن سعيد، فهاله انهماك الخليفة الناصر في بناء الزهراء وما أنفقه من أموال الدولة عليها، وكان الناصر يحضر صلاة الجمعة في الجامع، ويستمع إلى خطبة قاضيه منذر بن سعيد، فوقف الخطيب يخطب الجمعة، وكان مما بدأه في تقريع الناصر على إنفاقه الأموال وانهماكه في بناء الزهراء أن تلا قول الله تعالى:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:١٢٨ - ١٣٥] ثم وصل ذلك بقول الله تعالى: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}[النساء:٧٧] ثم أخذ يذم تشييد البنيان والإسراف في الإنفاق حتى خشع القوم وبكوا وضجوا، ثم التفت إلى الناصر وقال له أمام الناس يومئذ: ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ، ما ظننت أن الشيطان يضحك عليك ويوصلك إلى هذه الدرجة، ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين، سلمت قيادتك للشيطان مع ما آتاك الله وفضلك به على العالمين، حتى أنزلك الله منازل الكافرين، فاقشعر الناصر من قوله، وقال: انظر ماذا تقول، كيف أنزلتني منازلهم؟ فكر كيف تتحدث، كيف تضعني منازل الكافرين؟ قال: نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}[الزخرف:٣٣ - ٣٤] هذه لمن؟ فوجم الخليفة ونكس رأسه ملياً ودموعه تجري على لحيته خشوعاً لله تبارك وتعالى وندماً على ما فعل، ثم أقبل بعد انتهاء الخطبة والصلاة على قاضيه المنذر بن سعيد، فقال له: جزاك الله خيراً يا قاضي عنا وعن المسلمين، وكثَّر في الناس أمثالك، فالذي قلت والله لهو الحق، وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله، وأمر بأن ينقض سقف القبة وأن تكون قراميدها تراباً.
فإذاً اقتران النصيحة بالموعظة، كالتذكير بالله عز وجل، وذكر الجنة والنار وعذاب القبر، وذكر الأشياء الإيمانية المؤثرة، والتذكير بعظمة الله وصفاته من الأمور التي تجعل النصيحة ذات وقع على الناس، وتوجيهها إلى الكبار ونصحهم وهزهم بهذه الآيات له أثر كبير أيضاً.