[من مظاهر نقص الاستقامة: الكذب وخلف الوعد والفجور في الخصومة]
الذي يقول: إن عنده تدين واستقامة؛ لكنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، والذين يكذبون في الحديث كثرٌ جداً، وبعضهم مع الأسف قد يكون عنده من لبوس التدين ما عنده، لكنه يكذب في الحديث، بل قد يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذب على العلماء، وقد علمنا أن من هؤلاء من يجلس في المجالس ويقول: هذا حديث صحيح أخرجه فلان وفلان، وقال فيه فلان كذا، وهو كذاب ما في كلامه حرفٌ واحدٌ صحيح، أو الذين يجترئون على العلماء في المجالس ويقولون: الشيخ الفلاني أفتى بكذا، وقال: إنها حلال، والشيخ الفلاني حرمها، وقال: إنها حرام، وهو كذاب ما سمع الفتوى من الشيخ، ولم يتثبت منها وليس عنده طريقٌ صحيح من العالم، ومع ذلك ينقل على لسان الشيخ ما ينقل.
الذين يكذبون في الفتوى ويكذبون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينسبون الأحاديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم ليسوا متأكدين فعلاً من صحتها، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة أم أن عندهم مرضاً خطيراً هو مرض نقص الاستقامة؟ وهذا الذي إذا وعد أخلف، يخلف وليس عنده عذر، ويخلف دون اعتذار، ماذا يسمى؟ والذي يتخلف عن الموعد بدون عذر، والذي لو وعدك الساعة السابعة يخرج من بيته الساعة السابعة، وإخلاف الموعد درجات، فقد يخلف بالكلية، وقد يخلف جزءاً منه، لماذا تعد؟ وإذا وعدت لماذا لا تثبت على الموعد؟ وإذا لم تستطع لماذا لا تعتذر؟ أليس هذه من صفات المنافق؟ (أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن؛ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
هذا الكذاب الذي يقول لك أشياء لم تحصل، ويقول لك من القصص ما يخترعه، هذا هو الكذاب الذي يكذب فتبلغ كذبته الآفاق، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (إذا اقترب الزمان، ولم تكد رؤيا الرجل المسلم تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً) فجعل صدق الحديث من أسباب صدق الرؤيا وانطباق الرؤيا في الواقع حتى يرى الرؤيا، فتكون تنبيهاً له وتعريفاً له بأمر سيحصل.
إن الذين إذا أتوا أهل الخير جلسوا معهم، وأعطوهم من الكلام الطيب ما يقنعونهم به أنهم مثلهم وأنهم على طريقتهم وأنهم متدينون فعلاً، ثم إذا ذهبوا إلى أهل الشر جلسوا معهم وشاركوهم، وقالوا لهم من الكلام ما يدل على أنهم مثلهم ومن شيعتهم، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا أو فقُهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية قبل أن يقع فيه، وتجدون شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه هؤلاء) حديث صحيح، هؤلاء الذين يلعبون على الحبلين ويظنون أنهم حكماء، وأنه من الذكاء والفطنة والحنكة أن تسايس أهل الدين وتسايس أهل الفسق، وأن تكون مع هؤلاء بالألفاظ الطيبة والكلام الحسن والسمت الحسن، ثم تذهب إلى أهل الشر، فتكون مثلهم وتشاركهم في منكراتهم، هؤلاء الذين إذا ذهبوا إلى أهل الشر قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤] نحن إنما نأتي هؤلاء المتدينين ما يناسبهم (من كان له وجهان في الدنيا؛ كان له يوم القيامة لسانان من نار) أخرجه أبو داود من حديث عمار مرفوعاً، وهو حديث صحيح.
تجد أحدهم من سوء التعامل أنه إذا حدث بينه وبين أخيه خصومة؛ فجر في الخصومة، ثم هجر أخاه المسلم هجراً تاماً، لا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجلس معه في مجلس، ولا يزوره ولا يرد سلامه مع أنه مسلم مثله، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب بدعة؛ لقلنا: أحسنت، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب منكر ظاهر؛ لقلنا له: في الله هجرت، لكن من أجل الدنيا يهجرون إخوانهم المسلمين ويقطعونهم قطعاً، ويبتونهم بتاً، هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله أم أن عندهم مرضاً في الاستقامة؟ (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث، فمات؛ دخل النار) أخرجه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً، وهو حديث صحيح.
وفي حديث صحيح آخر: (هجر المسلم أخاه كسفك دمه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبدٍ مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا، اتركوا هذين حتى يفيئا) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر فيهما لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلٌ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.
فإذاً الذين يقطعون حبال الوصل مع إخوانهم المسلمين في الله هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله فعلاً؟ وبالمناسبة نقول: إنه لو انقطعت أخبار أخيك عنك لا لشحناء ولا لبغضاء، وانقطعت صلتك به لانشغالك وليس لعداوة؛ فإنك لا تكون هاجراً له، لكن احرص على وصل أخيك المسلم، لكن من أجل الدنيا تقطع أخاك المسلم فتهجره سنين ولا تسلم عليه! وهذا متفشٍ وكثير، ودقق في أحوال الناس واستمع للأخبار تجد ذلك عياناً بياناً.