للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وصولهم إلى البحر وخروج الحوت العظيم]

قال: ثم انتهينا إلى البحر وصلوا إلى ساحل البحر، فإذا حوت مثل الضرب، والحوت: اسم جنس لجميع السمك، وقيل: هو اسم للسمكة العظيمة الكبيرة، ولاشك أن الذي وجدوه هو حوت، والحوت: السمكة العظيمة الكبيرة جداً، مثل الضرب، والضرب: الجبل الصغير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء: (اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) فالضراب: جمع ضرب، والضرب هو الجبل الصغير، والحوت كان بضخامة الجبل الصغير، مثل الكتلة العظيمة، على ساحل البحر، ومن صفات الضرب أنه يكون منبسطاً وليس مرتفعاً جداً، بل منبسطاً فوق الأرض.

وفي رواية: (فوقع علينا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر)، والعنبر نوع من الحوت يمتاز بضخامته فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر.

وفي رواية: (فهبطنا بساحل البحر فإذا نحن بأعظم حوت)، قال أهل اللغة: العنبر سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلودها التروس، وهذا من قوة الجلد، ويقال: إن هذا العنبر الطيب المشموم يستخرج من رجيع الحوت، سبحان الله!! رجيع الحوت هذا هو العنبر المشموم الذي يستخدم كطيب، وقيل: إن المشموم يخرج من البحر ويؤخذ من أجواف السمك الذي يبتلعه، وقال الماوردي نقلاً عن الشافعي: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتاً في البحر ملتوياً مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها، فيقتلها فيقذفها فيخرج العنبر من بطنها.

وقال الأزهري من علماء اللغة: العنبر سمكة تكون في البحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعاً.

وجاء في رواية عمرو بن دينار: (فألقى لنا البحر حوتاً ميتاً) ولما وجدوه قال أبو عبيدة: هذه ميتة، ثم فكر مرة أخرى؛ لأنهم كانوا قد أصابهم الجوع، ولما فني التمر ماذا حصل؟ كانوا يضربون ورق السلم، وهو الخبط، نوع الشجر، ويبلونها بالماء فيأكلونها، حتى تقرحت أشداقهم من أكل ورق الشجر وأصابتهم مخمصة، فلما وجدوا هذا قال أبو عبيدة: هذه ميتة، ثم تراجع بعد ذلك قائلاً: أنتم رسل رسول الله -الرسول صلى الله عليه وسلم أرسلكم- وفي سبيل الله، إذاً لا بأس أن تأكلوا، لأنهم في مخمصة، حتى ولو كانت ميتة؛ لأنه يوجد ضرورة.

قال: فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة، وفي رواية عمرو بن دينار: فأكلنا منه نصف شهر، وفي رواية: شهر، يأكلون من هذا الحوت، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت -البعير الكبير وعليه الحمولة- ثم مرت تحتها فلم تصبه، وهذا يدل على ارتفاع الضلع أوقفوه على الأرض، ثم رحلت الراحلة وعليها شخص راكب وما مس رأسه الضلع وجاء في رواية ابن إسحاق وحسنها الشيخ الوادعي، يقول ابن إسحاق في الرواية: ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا، فخرج من تحتها وما مست رأسه.

وقيل إن هذا الرجل هو قيس بن سعد بن عبادة، وكان مشهوراً بالطول.

وحصلت طرفة بين المسلمين والروم في عهد معاوية رضي الله عنه: أن الروم أخرجوا أطول رجل عندهم، والمسلمون أخرجوا أطول رجل عندهم، وأطول رجل عند المسلمين كان هذا: قيس بن سعد بن عبادة، فـ قيس بن سعد بن عبادة نزع سراويله للرومي، فكانت مثل طول الرومي؛ بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض سروال المسلم هذا جاء على طول الرومي كله، فكم سيكون طول المسلم؟ سيكن طوله ضعف طول ذاك، فكأنه يقول: غلبناكم بالدين وبالطول وبالعرض وكل الأشياء.

وجاء في رواية مسلم: (فأخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً، فأقعدهم في وقب عينه)، والوقب: هو حفرة العين التي في عظم الوجه، وأصل الوقب: النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، وجمعها: وقاب، فمن عظم الحوت هذا أن الحفرة التي فيها عينه في وجهه قعد على حافتها ثلاثة عشر رجلاً، وقد جاء في حديث عبادة بن الصامت قال: (خرجت أنا وأبي نطلب العلم، وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يطعمكم.

فأتينا سيف البحر) والسيف هو: الساحل أو الشاطئ، وهذا مما أخذته اللغة الإنجليزية من العربية، ففي الإنجليزية ( saif) أي: شاطئ، وهي عندنا سيف البحر باللغة العربية، فأخذوها منا، وبعض الناس الآن يقولون: سيف؛ تقليداً للخواجات، وما يدرون أن الكلمة أصلاً عربية.

قال: (فأتينا سيف البحر، فزخر البحر زخرةً فألقى دابةً، فأورينا في شقها النار، فطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا، قال جابر: فدخلت وفلان وفلان حتى عدَّ خمسةً في حجاج عينها وما يرانا أحد -أي دخلوا وصاروا مختفين داخل هذه الحفرة- حتى خرجنا وأخذنا ضلعاً من أضلاعها، فقوسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه).

فلعلها هذه القصة أو تتحد مع هذه القصة، مع أن الظاهر أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لعل فيها محذوفاً تقديره: فبعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتينا إلى آخر الكلام.

استعملوا من هذا الحوت الدهن، لأنهم كانوا قد أصابهم هزال من الجوع، قال في رواية البخاري: وادهنا من ودكه، والودك هو: الشحم، وقال أيضاً: كنا نقطع منه الفدر كالثور، والفدر جمع فدرة، والفدرة: القطعة من اللحم قال: فحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر أي: عبئوا من شحمها وأخذوا من اللحم.

وحصل أيضاً في هذه الغزوة أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، فقال: انحر، فنحر للمسلمين مرة، ً ثم الثانية ثم الثالثة، حتى أمره أبو عبيدة أن يكف، ولعل ذلك لأنه كان ينفق هذا من ماله، فأراد أبو عبيدة ألا يفنى مال هذا الرجل، فأمره أن يكف عن ذبح هذه الأنعام.