إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) وفي رواية الترمذي: (ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس) ورواه الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً -وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه- أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال: لا.
ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق، وازدرى الناس).
هذا الرجل مالك بن مرارة الرهاوي رضي الله عنه؛ لما سمع أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر خشي أن يكون التجمل بالمباحات وإن كان دون إسراف، وفي حدود الشرع، خشي أن يكون التجمل في المظهر من الكبر، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس كذلك، وأن الله جميل؛ جميل في ذاته سبحانه، جميل في صفاته، جميل في أفعاله عز وجل، أجمل شيء في الوجود رب العزة سبحانه، ولذلك إذا نظر أهل الجنة إلى ربهم نسوا كل نعيم في الجنة يوم القيامة.
إذاً فما هو الكبر الذي من كان في قلبه مثقال ذرة منه لا يدخل الجنة؟ قال: بطر الحق، أي: دفعه وإنكاره ترفعاً وتجبراً، التجبر على الحق فلا يراه حقاً، التكبر عن الحق فلا يقبله، هذا هو بطر الحق.
وغمط الناس أي: احتقارهم.
وعند هذه المسألة في قوله:(بطر الحق) نقف.
أيها الإخوة! إذا راجعنا أنفسنا يتبين لنا أن مما ابتلينا به أننا ندفع الحق في كثير من الأحيان ولا نقبله، ونجادل بالباطل ونحن نعلم أن ما عرض علينا هو الحق، ونترفع عن قبوله ونصد عنه، هذه ظاهرة خطيرة، وهي أساس كل بلاء، وهي عدم قبول الحق والإذعان له، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن أخلاق المسلمين:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الزمر:١٨] فإذا عرض عليك الكلام وكان فيه حق فاستمع واقبل، وقبول الحق من العدل الذي أمر الله به بقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}[النساء:١٣٥] قبول الحق من علامات التواضع.
سئل الفضيل بن عياض رحمه الله عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله، وقال ابن القيم رحمه الله: إن من أعظم التواضع أن يتواضع العبد لصولة الحق، فيتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد، والدخول تحت رقه؛ بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع.
خضوع العبد لصولة الحق وانقياده له هو التواضع، بل قمة التواضع أن تخضع للحق، فهذا معنى عظيم من معاني التواضع غفل عنه الناس.