ثم نأتي إلى مسألة فقه التيسير ومتابعة أهواء العامة ومجاراة أهوائهم.
من البدع العصرية التي خرجت ما يعرف بفقه التيسير، وفقه التيسير هو: عبارة عن اتباع الهوى، وجمع الرخص واختراعها، وهم لا يكتفون فقط بجمع الرخص التي هي زلات العلماء، فهناك -الآن- مدرسة فقه التيسير، هذه المدرسة القائمة على الحوارات على الفضائيات، وفقه التيسير يحاول أن يجمع لك أية رخصة أفتى بها، أو قالها عالم أو أحد في كتاب سابق من أي مذهب كان، وتجمع في قاموس فقه التيسير وإذا لم يجد يخترع فتوى جديدة، تناسب العصر -بزعمهم- توافق هوى الناس وتخالف الكتاب والسنة، فيقولون مثلاً: يبحث مثلاً من الذي قال: إن ربا النسيئة ربا الفضل؟ قال: هناك بعض العلماء، قبل أن يعلم الحكم يفتي بأحد نوعي الربا أنه جائز، وكان فلان يجيز أكل البرد في نهار رمضان، وكان فلان يرى بإباحة نكاح المتعة، لم يصل إليه التحريم، وكان فلان يبيح الغناء، وكان فلان كذا، فيجمعون لك هذه كلها ويجعلونها في قاموس يسمى: فقه التيسير، وإذا وردت مسألة عصرية جاء أناس فقالوا: نحن في الغرب نريد أن نشتري بيوتاً ولا يمكن أن نشتري إلا عن طريق البنوك الربوية، فالبنك يمول شراء البيت ونحن نقسط بزيادة، وهذا ربا واضح، فيقولون: هذه ضرورة عصرية، يعني: أيبقى الناس مستأجرين؟! نقول: هناك مدراء شركات مستأجرين، بل تجد (٧٠% أو ٨٠%) مستأجرين أين هم؟ هل كل هؤلاء مساكين يستحقون الزكاة، كل هذه البنايات والعمارات هل كل هؤلاء من أهل الزكاة؟ يقول: هذه ضرورة عصرية: الشراء عن طريق تمويل البنوك وجعلها في قاموس التيسير، وهكذا كثرت الأهواء في اتباع الرخص، ومن تتبع رخص العلماء تزندق وخرج من دينه، فإنه ما من عالم إلا وله سقطة أو زلة واحدة على الأقل؛ فإذا تتبع الإنسان هذه الرخص اجتمع فيه الشر كله، ومع طول عهد الناس بعصر النبوة والبعد عن وقت النبوة زادت الأهواء، واستولت الشهوات على النفوس، ورق الدين لدى الناس، وزاد الطين بلة ارتباط المسلمين بالغرب الذي استولى على مادياتهم وصدر إليهم الفكر الذي يعتنقونه ويرضخون له، وترك هذا الأمر أثره -مع الأسف- حتى على بعض الدعاة، أو الذين يزعمون نصرة الإسلام، ويتصدرون المجالس في الكلام، فصاروا يريدون إعادة النظر في بعض الأحكام الشرعية، يقولون: ثقيلة على الناس، الناس لا يطيقونها، ماذا تريدون؟ قالوا: نخفف، نرغب الناس في الدين، فنقول لهم: أنتم تريدون إدخال الناس من باب ثم إخراجهم من الدين من باب آخر! أنتم تريدون إدخال الناس في دين ليس هو دين الله، أنتم تريدون أن تنشروا على الناس إسلاماًَ آخر غير الذي أنزله الله، أنتم تريدون أن تقدموا للناس أحكام غير أحكاماً الشريعة التي أتى بها رب العالمين، ماذا تريدون؟ ما هو نوعية الإسلام الذي تريدون تعليمه للناس؟ وأي شريعة هذه؟ وأي أحكام؟ ومن الناس من يتطوع لمتابعتهم، ولا شك أن الناس فيهم أهل هوى وأتباع كل ناعق، يريدون يسراً ولا يريدون مشقة، ويريدون سهولة ولا يريدون تكاليف صعبة، فنقول: أفتهم بعدم صلاة الفجر؛ لأن صلاة الفجر فيها مشقة، وأفتهم بعدم الصوم في الصيف الحار؛ لأن الصوم في الصيف الحار مشقة، أفتهم بالفطر والقضاء، وأفتهم بصلاة الفجر الساعة الثامنة، فما دمت تريد أن تخفف على الناس خفف، وقل إن الربا ضرورة عصرية، وهكذا صار الإسلام الذي يقدم للناس غير الإسلام الذي أنزله الله.
لكن كيف يعني:(القابض على دينه كالقابض على الجمر) هذا الحديث ما معناه؟ إذاً: ماذا بعد أن نلغي أي أحكام ونقول: هذه يعاد النظر فيها؟ فكيف يحس الواحد أنه قابض على الجمر؟ كيف يحس أن هنا فتنة وابتلاء من الله، الله ابتلى الناس بالتكاليف وابتلاهم بالمشاق، ماذا يعني إسباغ الوضوء على المكاره؟ ماذا يعني حفت الجنة بالمكاره؟ إذا كنت تريد إلغاء المكاره من الدين، فأين الجنة هذه التي تريدون دخولها؟ الجنة حفت بالمكاره فأين المكاره؟ أنتم تريدون إلغاء المكاره كلها بحجة التخفيف على الناس وترغيبهم في الإسلام، أنتم ترغبونهم في شيء آخر غير الإسلام، ترغبون في دين آخر تشرعونه من عندكم، وهذا التمادي يجعل الداعية هذا أو المتصدر المتزعم المدعي للعلم عبداً لأهواء البشر.
يا شيخ هذه ثقيلة.
يقول:(خلاص بلاش) يا شيخ والله ما قدرت، قال: هذا مباح، وهكذا يصبح الشرع وفق أهواء الناس وشهواتهم ويعاد تشكيل دين جديد، وأحكام جديدة وفقه جديد، اسمه: فقه التيسير، وهو قائم على تمييع الشريعة ومراعاة أهواء الناس، ماذا يقول الناس؟ ما هو رأي الأغلبية؟ يجوز.
ويجب أن يقوم الدعاة إلى الله بمقاومة داعي الهوى، فالشريعة جاءت لمقاومة الهوى، وتربية الناس على تعظيم نصوص الشرع والتسليم لها وترك الاعتراض عليها، وأن النص الشرعي حاكم لا محكوم، وأنه غير قابل للمعارضة ولا للمساومة ولا للرد ولا للتجزئة ولا للتخفيض، وليذكّر العامة والخاصة بقول الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}[الأحزاب:٣٦] فلابد من تربية الناس على التعلق بالآخرة، وأن الدنيا دار شهوات وأهواء وظل زائل، وأن الجنة قد حجبت بالمكاره، والنار قد حجبت بالشهوات، وأن اليقين ما دل عليه الشرع، وما جاء به الشرع هو مصلحة الناس ولو جهلوا، ولو قالوا: ليس في هذا مصلحتنا، وأن من مقاصد الشريعة تعبيد الناس لرب العالمين، وأن الواحد يركب المشاق حتى يتعبد ويذلل نفسه لله.
قال الشاطبي: المقصد الشرعي من وضع الشريعة؛ إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد له اضطراراً.
إذاً: ما هو المقصد الشرعي من وضع الشريعة؟ لماذا ألزم الله الناس بالشريعة؟ الغرض من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله، وليتذكر هؤلاء القوم أن مجاراة الناس في الترخص والتيسير لا تقف عند حد، فماذا نفعل بمن تتبرم من لبس الحجاب؟ ومن يتبرم من صيام الحر في رمضان؟ ومن يتثاقل من السفر للحج لما فيه من المشقة والأمراض المعدية؟ وماذا نصنع بالجهاد الذي فيه تضحية بالنفس والمال؟ فإذا كنا نريد أن ننسلخ من أي شيء فيه ثقل فأي دين هذا الذي نريد اتباعه، والتيسير الذي يسره الله للناس ورخص فيه -هذا الشرعي أما الآخر فتيسير بدعي- التيسير الشرعي، كالمسح على الخفين والجورب للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، هذا تيسير شرعي:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:١٨٤] هذا تيسير شرعي، أما أن تأتي وتقول: الربا ضرورة عصرية، فهذا كلام فارغ.