[الحسن البصري عبادته وخشيته وحسن خلقه]
أما بالنسبة لعبادته رحمه الله، وخشيته لله، وتقشفه، فإنه مع كونه جيد الملبس والمطعم، لكنه كان زاهداً، كان يصوم أيام البيض، والإثنين والخميس، وأشهر الحرم.
وحكى ابن شوذب عن مطر قال: "دخلنا على الحسن نعوده فما كان في البيت شيء -لا فراش، ولا بساط، ولا وسادة، ولا حصير- إلا سريراً مرمولاً هو عليه، حَشْوُهُ الرمل" والسرير المرمول: الذي نسج وجهه بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير، فيسمى مرمولاً.
وقال حمزة الأعمى: ذهبت بي أمي إلى الحسن، فقالت: يا أبا سعيد! ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنتُ أختلف إليه، فقال لي يوماً: [يا بني! أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابكِ في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطَّلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين] هذه الوصية بالبكاء من خشية الله، ودمع العين من هيبة الله تعالى وخوفه، وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي -لم يكن يأمر الناس بالشيء وهو لا يفعل، بل كان يقول ويفعل، ويفعل قبل أن يقول- وربما جئت إليه وهو يصلي، فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوماً: إنك كثير البكاء -دائماً تبكي- فقال: [يا بني! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ، يا بني! إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار إذا رحمك ستجد نفسك قد نجوت من النار].
قال إبراهيم اليشكري: "ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة".
كأنه الآن قبل قليل جرت عليه مصيبة.
وقال أحد مَن رآه: "لو رأيتَ الحسن، لقلتَ: قد بُث عليه حزن الخلائق".
أي: جُمِعَتْ عليه.
وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما، وكانا قليلاً الضحك والمزاح.
لأنه إذا كان كثير البكاء من خشية الله فإن ذلك ولا شك سيؤثر في مزاحه وضحكه، فمن كان كثير البكاء كان قليل الضحك، ومن كان كثير الخشية والهيبة كان قليل المزاح.
ومن حسن خلقه: أنه كان سمحاً في بيعه وشرائه، فكان إذا اشترى شيئاً وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه، كان يشتري بريال إلا ربع فيترك الربع للبائع، أو بريال ونصف فيترك النصف للبائع، وما ذاك إلا من طيب خلقه، لا يدقق ويفتش ويأخذ الكسور، وإذا اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقاً -لأن الدرهم يقسم إلى دوانق، والدانق بعض الدرهم- كمَّله درهماً، يقول: خذ الدرهم كاملاً، أو بتسعة ونصف كمله عشرةً مروءةً وكرماً.
والآن بعض الناس يقولون: هناك صناديق للهيئات الخيرية في البقالات، الهيئة الخيرية أولى من صاحب البقالة، وهذا جيد وطيب، يأخذ هذه القروش ويضعها في هذا الصندوق من صناديق التبرعات، وهذا جيد أنه يجود بهذه الكسور لله تعالى.
رأيت مرة منظراً غريباً في أحد البقالات الكبيرة: أجنبي كافر أعطى البائع الريالات وأخذ الفكة ووضعها في الصندوق الخيري، مع أنه كافر! لكن صحيحٌ هو لا ينتفع بها عند الله يوم القيامة؛ لأن الله تعالى لا يجزي الكافر بحسناته يوم القيامة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] لكن يعطونها في الدنيا، إنما يؤثر فيك أن ترى كافراً يتبرع لصندوق الإغاثة، أو لصندوق الفقراء وهو كافر!! وباع الحسن -رحمه الله- بغلة، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد؟ -اتفقوا على الثمن ورضوا، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد؟ - قال: لك خمسون درهماً، أزيدك؟ -أي: هل تحتاج إلى زيادة؟ - قال: لا.
رضيت، قال: بارك الله لك.
وهذا عين ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث ودعا: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).