[أركان حسن الخلق وسوء الخلق]
واعلموا -أيها الإخوة- أن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، أي: أن منشأ الأخلاق الحسنة الفاضلة في هذه الأمور الأربعة، ما هي؟ قال ابن القيم: أولاً: الصبر.
ثانياً: العفة.
ثالثاً: الشجاعة.
رابعاً: العدل.
فأما الصبر: فهو حبس النفس، بأن يحبس النفس عن الأخلاق السيئة، ويصابر صاحبه على الأخلاق الحسنة.
والعفة: تحمل على اجتناب الرذائل والقبائح من الأقوال والأفعال، وتمنع من الفحشاء.
وأما الشجاعة: فتحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، والبذل وكظم الغيظ، (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وأما العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
وأما الأخلاق السافلة فهي مجتمعة في أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب.
فأما الجهل فيري صاحبه الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وهذا لجهله.
والظلم يحمل صاحبه على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.
وهكذا.
وأما الشهوة: فإنها تحمل على الشح والبخل والجشع والنهم والدناءات كلها.
وأما الغضب: فيحمل على الحسد والحقد والعدوان، وحب الاعتداء على الآخرين، والكبر.
وكل صنفين من هذه الأخلاق الرديئة يتكون منه أخلاق إضافية سيئة، وجماع الأخلاق السيئة على أمرين: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة.
فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والخسة واللؤم والذل، ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والعنف والحدة والطيش، ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً، فيكون صحابها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قُهِر، جبان عن القوي جريء على الضعيف، فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضاً كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضاً، ولذلك كل شخص يكتشف خلقاً طيباً فليتوقع أنه سوف ينتقل إلى خلق آخر.
وينبغي أن نتنبه -أيها الإخوة- أن الأخلاق مسألة دقيقة، وأحياناً يكون بين الخلق الذميم والمحمود شعرة واحدة، فالخلق المحمود بين طرفين ذميمين، كل خلق محمود في الغالب بين طرفين ذميمين، فالجود: الكرم، بين طرفين ذميمين ما هما؟ بين البخل والتبذير، لاحظ أن الكرم خلق محمود بين خلقين مذمومين وهما البخل والتبذير، فإذا أمسك فهو بخيل وإذا صرف بانفتاح فهو مبذر، والوسط كريم.
والتواضع وسط بين الذل والكبر، فالإنسان إذا تواضع لدرجة أنه صار يصبر على الضيم، أو يرضى بالأشياء السيئة، ولا يعترض على أي شيء، فإنه عند ذلك لا يكون متواضعاً أبداً، وإذا زاد تجبر وتكبر، فالتواضع بين الذل والمهانة من جهة، وبين الكبر والعلو من جهة، فهو وسط بينهما.
والحياء وسط بين الوقاحة والجرأة من جهة، وبين العجز والخور، فبعض الناس يكون جريئاً وقحاً، ليس عنده حياء، وبعض الناس يظن أن عنده حياء ويستكين لكل شيء فيكون عاجزاً خواراً، يظن أن هذا حياء وهو العجز والخور، وإذا تجرأ وزاد عن الحد دخل في الوقاحة، والحياء رتبة بينهما.
والأناة خلق محمود بين طرفين ذميمين ما هما؟ الطرف الأول هو: الاستعجال، والطرف الثاني التفريط والإضاعة، فبعض الناس يظن نفسه متأنياً لكنه في الحقيقة أنه فرط وأضاع وانتظر حتى ذهبت عليه الفرصة، وبعض الناس متعجل جداً ومتسرع، والأناة وسط بينهما فهو لا متسرع ولا هو ينتظر الفرص، يسكت عن الفرص حتى تفوت عليه، فهو يتمهل ويتروى ولكن يقتنص الأشياء المحمودة فلا تفوت عليه.
والشجاعة خلق محمود بين طرفين مذمومين، ما هما؟ الجبن والتهور، فهناك أناس متهورون متسرعون إقدامهم غير محمود، وهناك أناس جبناء، والشجاعة بينهما، والسعيد من عرف كيف يسير.
والقناعة: خلق بين الشح والحرص من جهة، وبين الخسة والإضاعة من جهة، فبعض الناس يضيق على نفسه وعلى أهله ويظن أنه قنوع، بينما هو يعيش في خسة ويضيع أهله ومن يقوت، وبعض الناس يكون عنده حرص وشح، والقناعة وسط بينهما.
والرحمة وسط بين القسوة والضعف، وبعض الناس يكون قاسي القلب (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) وبعضهم يكون ضعيفاً ذليلاً، ومن ضعفه يظن أنها رحمة وليست برحمة، فتراه لا يذبح شاة، ولا يؤدب ولداً، ولا يقيم حداً، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس ذبح بيده الشريفة ثلاثاً وستين ناقة، وأقام الحد -قطع اليد- على رجال ونساء سرقوا، ورجم بالحجارة من زنى وهو محصن، ومع ذلك فهو أرحم الناس بأمته.
وطلاقة الوجه والبشر، بين التقطيب والتعبيس من جهة وتصعير الخد، وبين إذهاب الهيبة وزوال الوقار، فأنت إذا قطبت وعبست في وجه كل أحد فهذا خلق مذموم، وإذا كنت كلما رأيت أحداً في الشارع تضحك له في كل مكان وكل مجال، فماذا يعني ذلك؟ إذهاب هيبتك وزوال وقارك.
ولذلك أيها الإخوة: الإنسان يحتاج إلى عقل حتى يتخلق بالأخلاق الحسنة، وأحياناً يزيد الناس في شيء فيصلون إلى المذموم من جهة، أو ينقصون منه فيصلون إلى المذموم من الجهة الأخرى.
وهذه قضايا تلاحظ بالتأمل والتفكير.