[حدود الزهد]
والزهد منزلة عظيمة بلغها السلف والصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وانظر في عيش الصحابة رضوان الله عليهم كيف عاشوا من الدنيا كفافاً.
وكان الواحد يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم الصلاة بالثوب الواحد؟ ويقول: ما عندي إلا إزار؟ ما عندي إزار ورداء، كيف يفعل؟ يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فأهل الصفة ثلاثمائة واحد تقريباً كانوا في الصفة مجتمعين، الذي يأتي من المسلمين بعذق من تمر وبشيء من خبز، أو كل واحد يأخذ له واحداً، يعشيه كل يوم إذا وجد، أو يبيتون فقراء طاوين، فـ أبو هريرة يسعى سعياً حثيثاً يقول الناس مجنون، وما به جنون ما هو إلا الجوع.
فقد سأل أبا بكر مسألة لا لمعرفة الجواب، بل من أجل أن يفطن له، فلا يستطيع أن يبين صراحة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمر زمن وما يوقد في بيته نار ولا يطبخ، لكن إذا دعاه أحد الصحابة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أكل خبزاً أبيض وقد يمر الشهر والشهران والثلاثة، ولم يوقد في بيته نار فليس هناك شيء يطبخ، سوى الأسودان التمر والماء، لكن انتبه معي إلى هذه النقطة، إنه لم يكن عنده عليه الصلاة والسلام إلا هذا، فهذا زهد في الدنيا، إن الله عز وجل يستطيع أن يجعل منه ملكاً، عنده الخزائن، لكن ما سأل الله هذا.
لكن لما دعاه واحد من الصحابة في بستانه، وأخذ المدية وذبح له شاة وأتى له باللبن وأكلوا، وشوى لهم، هل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم لا.
هذا الطعام أو هذه الشاة المشوية، هذا طعام نفيس وزهد فيه ولم يأكل، بل أكل، أي: لما تيسرت له الأشياء ولما وجد أكل، فأكله من هذا اللحم المشوي النفيس هل ينافي الزهد؟ كلا.
كان له تسع نسوة ويقوم بأمرهن ويعدل، وقد أباح الله له الزيادة على أربع خصوصية في حقه، هل قال: أزهد في النساء وأطلق نسائي كلهن؟ لا.
فهذا الذي نحتاج إليه وهو المفهوم الصحيح في الزهد.
لقد كان ابن عوف وعثمان من أغنياء الصحابة، لكنهما كانا زاهدين مع ما فيهما من غنىً وابن المبارك، كان زاهداً مع أنه كان ذا مال وفير، وكان يقول: لولا هذا -يعني المال- لتمندل بنا هؤلاء، أي: لولا عندنا المال يسترنا وإلا كنا لجأنا إلى الناس واحتجنا إليهم وتمندلوا بنا، وصرنا مثل الطراطير نأتي إليهم ونذهب على المال الذي عندهم، لا.
بل نحفظ ماء وجهنا بمال أعطانا الله إياه، لكن كان من الزاهدين، ليس كلما رغبت نفسه أكلة ممتازة، كلف نفسه وذهب إلى أقصى البلاد لكي يأتي بها.
لعلنا سمعنا أن غنياً أحضر (إسكريم) بالطائرة من المحل الفلاني! هذا ممكن أن يكون زاهداً، إذا أكل من الخير الموجود عنده بلا تكلف ولا إسراف، لكن أن يرسل طيارة من أجل أن تأتي له بإسكريم، هذا إنسان!! نسأل الله السلامة.
فالغني يمكن أن يكون زاهداً، إذا كان متواضعاً ولم تطغه النعمة، فإذا كان عنده بيت واسع ونظيف وأكله جيد أعطاه الله نعمة، يحب أن يرى نعمته على عبده، أو سيارة جيدة، لكن تكلف هذه الأزياء والأشياء ومتابعة الموديلات بحيث كل ستة أشهر يغير، ويغير أثاث البيت دائماً باستمرار، هذا معناه أنه متعلق بالدنيا فلا يمكن أن يكون زاهداً.
فمتى يعرف الغني الذي عنده مال أنه زاهد أم لا؟ إذا شغلتك النعمة عن الله فازهد فيها، فزهدك فيها أفضل، وإن لم تشغلك عن الله، بل كنت شاكراً لله فيها، فحالك فيها أفضل.
فمثلا: شخص عنده تجارة، كيف يعرف أنه زاهد أم لا؟ إذا رأى أن التجارة تشغله عن طاعة الله، ويؤخر صلوات، ويتأخر عن المساجد، وعن دروس العلم والحلق والإخوة في الله، وصار إنساناً دنيوياً، لا.
إن تركك التجارة أفضل، خذ لك وظيفة عادية واجلس أحسن لك.
لكن إذا رأى أن التجارة لم تقطعه عن العبادة، ولا عن المسجد، والإخوة في الله، وحلق العلم، ويعطي الزكاة والصدقات ويتصدق، وكلما جاءه فقير أعطاه، ويعطي للمجاهدين ولبناء المساجد ولطباعة كتب وإلى آخره، فإذاً بقاؤه في تجارته أفضل بالنسبة له.