[ضوابط قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات]
ولكن لا بد لنا أن نعلم ونعرف ما هي القواعد أو بعض القواعد التي ذكرها العلماء لنكون على بينة عند استخدام هذا الأمر الخطير الذي إن لم يُحسن استخدامه تعرض المستخدم للهلاك في العاجل والآجل.
أولاً: يجب ألا يتسبب الإنسان لإيقاع نفسه في الضرورة، فلو أنه أتلف ماله وطعامه الطيب، وهو يعلم أنه سيضطر لأكل طعام محرم كان آثماً عند الله بفعله هذا.
وكذلك فإن الضرورة لا بد أن تقدر بقدرها.
إن باب الضرورة أيها المسلمون! ليس مفتوحاً على مصراعيه يدخل منه كل من هب ودب بأي طريقة شاء، وإنما هو مضبوط بضوابط وقواعد يعلمها أهل العلم الثقات، ذكروها في كتبهم، ويذكرها المفتون المخلصون للناس إذا سئلوا.
فالضرورة لا بد أن تقدر بقدرها، فمن اضطر إلى الكذب مثلاً فإن أمكنه التورية لا يجوز له أن يكذب، والتورية أن يأتي بلفظ له معنى بعيد في نفسه، ومعنى قريب في نفس الوقت يقصده الشخص السامع، أو يفهمه السامع، فعند ذلك لا يجوز أن يكذب، ويستخدم التورية، وإذا اضطر إلى الكذب كأن يكون عنده مال إنسان معصوم مخبأ، فجاء ظالم يقول له: هل عندك المال؟ ولم يجد طريقة للتورية، فيجوز له أن يكذب في هذا الأمر فقط، بجملةٍ محددة لا ينتشر الكذب إلى غيرها، ومن أكره على النطق بكلمة الكفر، لا يجوز له أن يكفر بقلبه مثلاً، لأن الكفر على اللسان فقط إذا اضطر إلى ذلك.
ومن جاز له التيمم للضرورة، فإذا قدر على استعمال الماء لا يجوز له أن يواصل في التيمم، ومن اضطر للإفطار في شهر رمضان من أجل المرض مثلاً، فإذا اشتد وقوي وأطاق الصيام ما جاز له أن يكمل في إفطاره، وكذلك المسافر لو أقام لا يجوز له الإكمال في الإفطار في رمضان.
وخذ مثلاً من الأمثلة التي يتعرض لها كثير من الناس في هذه الأيام بسبب عدم الاحتياط في الشريعة، وعدم وجود الجهود الصحيحة التي تزيل الحرج عن كثير من نساء المسلمين، كشف الطبيب على المرأة المسلمة أو على المرأة عموماً.
كشف الطبيب على المرأة المريضة، بسبب تقصيرنا وإهمالنا، وعدم تخطيطنا وانتباهنا للمحرمات وحرمات رب العالمين؛ حصل تقصير شديد في تنظيم الأمور، فصارت المرأة تضطر في كثير من الأحيان للكشف عند الطبيب الأجنبي، وهنا لا بد أن نفهم معنى تقدير الضرورة بقدرها في مثل هذا الموضع.
فمثلاً: لا بد أن تبحث عن طبيبة مسلمة لزوجتك أو بنتك، فإن لم يوجد طبيبة مسلمة مؤهلة، في أي مكان تستطيع الوصول إليه وتستطيع دفع أجره، جاز اللجوء إلى طبيبة كافرة، فإن لم توجد طبيبة كافرة مؤهلة أيضاً جاز اللجوء إلى الطبيب المسلم المؤهل، فإن لم يوجد جاز اللجوء إلى الطبيب الكافر، فهل يتبع الناس هذا التنفيذ؟ ثم: إذا جاز للطبيب الكشف عن المرأة الأجنبية، فيجب أن يكون بغير خلوة، وأن يحضر محرمها مثلاً، وأن يكشف على موضع العلة فقط، وإذا كان النظر إلى موضع العلة يكفي فلا يجوز له أن يلمس، وإذا كان يكفيه لمس من وراء حائل لا يجوز له أن يلمس بغير حائل، وإذا كان يتوجب أن يلمسه بغير حائل فلا يلمس ما حوله من المنطقة التي لا علاقة لها بالعلة، ولا علاقة لها بالعلاج أيضاً، وإذا كان يكفيه أن يفحص لمدة دقيقة مثلاً، فلا يجوز له أن يتعدى هذه الفترة، وكل إنسان مؤتمن على حريمه، وما أكثر التفريط في هذا الأمر في هذه الأيام! ثم إن الضرر لا يزال بمثله أو شيء أكبر منه، فمثلاً لو قالوا له: اقتل فلاناً وإلا سلبنا مالك، فلا يجوز له أن يقتله، بل لو قالوا له: اقتل فلاناً وإلا قتلناك، وفلان هذا مسلم معصوم، لا يجوز له أن يقتله لأن النفوس في الشريعة سواسية، فكيف يجوز له أن يقتل غيره من المسلمين لكي يدفع القتل عن نفسه؟ ولذلك قال العلماء: لا يجوز للجنود المسلمين قتال الجنود من المسلمين بغير وجه حق، ولو كانوا مكرهين، ولو كان الإكراه بالقتل.
وكذلك لو أكره جندي مسلم بالقتل على أن يدل العدو على ثغرة ينفذون منها إلى البلد المسلم، لكي يحتلونه ويوقعون القتل والتشريد في أهله، ما جاز له أن يدلهم ولو قتلوه.
ويرى أكثر أهل العلم أنه لو أكره على الزنا بامرأة مسلمة عفيفة، لا يجوز له أن يزني بها، ولو أكره بالقتل لما يترتب على ذلك من المفسدة العظيمة المنتشرة، من انتهاك عرضها، وتحطيم شرفها وشرف أسرتها، أو زوجها، واختلال النسب، وإنما يصبر على القتل صابراً محتسباً لوجه الله تعالى.