ومما يدخل في الفراسة سرعة البديهة، وهي جزء من أجزاء الفراسة أو نوعٌ منها، فمن ذلك أن شريكاً -وهو قاضٍ عالم فاضل دخل على المهدي، فقال للخادم -الآن المهدي خليفة أمامه واحد من عظماء المسلمين وعلمائهم الكبار- قال: هاتِ عوداً للقاضي يعني: البخور، فجاء الخادم بعودٍ يضرب به -الخادم غبي أتى بعود مما يعزف به، فوضعه في حجر شريك - فصارت الآن الورطة الكبيرة للمهدي الخليفة، أن هذا العالم الجليل يأتي للعود ويضع في حجره، فقال شريك: ما هذا؟ فبادر المهدي وحضرته البديهة فقال: هذا عودٌ أخذه صاحب العسس البارحة -الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من العسس- صادره بالأمس، فأحببت أن يكون كسره على يديك فدعا له وكسره.
وكذلك: كان للمعتضد رحمه الله عجائب في هذا، منها: أنه قام ليلةً فإذا غلامٌ قد وثب على ظهر غلام، فاندس بين الغلمان فلم يعرفه، فجعل يضع يده على فؤاد كل واحد، واحداً بعد واحد فيجده ساكناً حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام فإذا به يخفق خفقاً شديداً فركضه برجله واستقره فأقر فقتله، يعني: على فعل الفاحشة.
وكذلك: رفع إليه أن صياداً ألقى شبكته في دجلة فوقع فيها جراب فيه كفٌ مخضوبةٌ بحناء، كف مقطوعة، وأحضر بين يديه، فهاله ذلك، وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة هناك، ففعل فأخرج جراباً آخر فيه رجلٌ -كف ورجل- فاغتم المعتضد وقال: معي في البلد من يفعل هذا ولا أعرفه؟!! ثم أحضر ثقةً له وأعطاه الجراب وقال: طف به على كل من يعمل الجرب بـ بغداد فإن عرفه أحدٌ منهم فاسأله عمن باعه منهم، فإذا دلك عليه فاسأل المشتري عن ذلك، وانقل عن خبره فغاب الرجل ثلاثة أيام، ثم عاد فقال: ما زلت أسأل عن خبره حتى انتهى إلى فلان الهاشمي اشتراهما مع عشرة جوارب وشكا البائع شره وفساده، ومن جملة ما قال: إنه كان يعشق فلانة المغنية وأنه غيبها، فلا يعرف لها خبر وادعى أنها هربت والجيران يقولون: إنه قتلها، فبعث المعتضد من ذهب إلى منزل الهاشمي وأحضره وأحضر اليد والرجل وأراه إياهما، فلما رآهما انتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف.