[أن فرض الكفاية حسب الاستطاعة]
وكذلك من قواعد فروض الكفايات: أن فرض الكفاية حسب القدرة والاستطاعة، بعض الناس عنده قدرة أكثر من غيره، ولذلك فإن بعض أصحاب الاستطاعة أو القوة والقدرة يكون إثمهم عند الله ومسئوليتهم أشد من غيرهم من الضعفاء، والدخول في المجالات التي تمكن من القيام بفرض الكفاية إذا تعين طريقاً واجب، يجب الدخول فيها لأجل القيام بفرض الكفاية، وكان هناك عدد من العلماء لهم وجهة نظر في تولي الولايات، مثل: إسماعيل بن علية رحمه الله فإنه أخذ ولاية الصدقات، تولى ولاية الصدقات وظيفة في بيت المال، يجمع الصدقات ويصرفها في مستحقيها، هذا اجتهاده رحمه الله وإن أنكر عليه من أنكر لكن رأيه دخل فيها لأجل إقامة هذا الفرض، وكذلك خالد بن الوليد لما قُتل الثلاثة الأمراء الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم تقدم هو لسد الثغرة وحمل اللواء كل على حسب طاقته وكل بحسب موقعه.
من الأشياء اللطيفة التي أشار إليها الشاطبي رحمه الله في المسألة الحادية عشرة في المجلد الأول من كتاب: الموافقات في مسألة فروض الكفاية، بعد أن ساق الأدلة في قضية فروض الكفاية: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:١٢٢] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:١٠٤] على أحد المعنيين في تفسير الآية ذكر أن القيام بالشيء هو بحسب القدرة والاستطاعة، وأن الذي يأثم هو صاحب القدرة والاستطاعة إذا لم يقم، واستدل بحديث أبي ذر: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأَمَرَنَّ على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) وقال الشاطبي رحمه الله: وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك فقد نهاه عنها، أي: تولي مال اليتيم من فروض الكفاية لئلا يضيع، وكذلك الإمارة من فروض الكفاية، لا يصبح الناس فوضى لا سراة لهم.
قال: ومع ذلك فقد نهاه عنه، لأنه يعلم أنه لا يطيق القيام بهذه المسئولية، فلو فرض إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج الإهمال ولا من كان مثله، يعني: إذا لم يقم بهما العجزة أصلاً على القيام ليس عليهم حرج ولا يدخلون في الحرج، قال: وعلى هذا النهي جرى في تقليل كثير من فروض الكفايات فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو؟ قال: أما على كل الناس فلا، أي: الزائد عن الفرض العين، كل واحد عليه أن يعلم إذا أراد أن يطلق كيف يطلق، إذا أراد أن يبيع كيف يبيع، لكن طلب العلم كله والتفقه في الدين ليس بفرض، لما سُئل مالك قال: أما على كل الناس فلا، وقال أيضاً: أما من كان فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب.
عموماً: الشاطبي رحمه الله أشار إلى نكتة بديعة في القضية وهي مسألة تهيؤ الناس لأداء فروض الكفاية، قال: الذين ليس عندهم قدرة للقيام بها يجب عليهم أن يدفعوا غيرهم على القيام، وأن يساعدوا غيرهم للقيام بها، قال: ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام به.
أبٌ ما يستطيع أن يطلب العلم ولمس في ولد من ولده القدرة، إذاً يجب عليه أن يدفعه لهذا لأجل سد الثغرة الموجودة عند الناس في قضية الإمامة في العلم والفُتيا والتعليم، ولذلك قال رحمه الله: فإذا فُرض أن واحداً من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع، ميل به نحو ذلك القصد الذي هو طلب العلم، وجهنا الصبي هذا لطلب العلم، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة؛ مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم، إذاً يجب على ولي الصبي أن يوجهه لهذا المجال إذا أَنَسَ من الولد القدرة، يجب أن يدفعه إلى هذا المجال أو إلى هذا الحقل لأجل أن يغطي في المستقبل، إذاً هذه قضية بعض الأشياء المتعلقة بفروض الكفاية.
وقد كان السلف رحمهم الله قد قاموا بذلك خير قيام، وكان كل واحد يقوم على قدر طاقته، هذا شبير في معركة القادسية واحد من المسلمين قزم قصير كانوا ربما استهزءوا به، تقدم واحد من فرسان الفرس للمبارزة والتحدي ما خرج إليه أحد، فهذا المسلم القصير قام وخرج حتى ضحك به ذلك الرجل وأمسكه وأنزله من الفرس ودقه في الأرض، ولكن تعلقت قدم ذلك الفارس بشيء فسقط على الأرض فقعد عليه شبير فذبحه بسيفه والناس ينظرون بين تكبيرة المسلمين وتأوهات الفرس الملاعين، كانوا يستشعرون أهمية القيام بالقضية، هذا كان على مستوى الضعفاء.
أما على مستوى الوزراء: انظر مثلاً في ترجمة الوزير ابن هبيرة رحمه الله يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعد بن الحسين هذا الرجل العظيم ولد في ربيع الآخر سنة (٤٩٩هـ) وكان معاصر لـ نور الدين الشهيد، والرجل هذا نشأ فقيراً محتاجاً فدخل في بعض أعمال الخليفة حتى صار وزيراً، لكن الرجل هذا ما ضاع في متاهات المناصب والقصور والغنى والثراء، وإنما حافظ على دينه.
ولذلك لما تولى الوزارة مازال يطلب العلم وقد كان يطلبه وهو شاب، وتخرج على عدد من العلماء، صنف كتاباً وهو في الوزارة، وهذا الكتاب المشهور باسم: الإفصاح عن معاني الصحاح، اعتنى به وجمع عليه أئمة المذاهب وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث أنفق على ذلك مائة وثلاثة عشر ألف دينار، وحدث به واجتمع خلق عظيم لسماعه عليه، وبُعث إلى الأطراف بنسخ منه حتى السلطان نور الدين الشهيد واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم يدرسون منه في المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون ويحفظ منه الفقهاء.
لكنه ما غصبهم عليه أو أنه استغل منصبه لفرض كتابه بالقوة أبداً، لكن كان يستعين بحكم منصبه بالفقهاء ويستقدمهم على نفقته ويتيح المجال لمناقشة ما في الكتاب والتصحيحات، وهو رجل عالم قبل أن يكون وزيراً، وكان هذا الرجل من فقهه يقول: لا تقولوا في ألقابي سيد الوزراء فإن الله سمى هارون وزيراً، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه أبو بكر وعمر، وقال: (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعلهم وزراء وأنصاراً) ولا يصح أن يقال عني: أني سيد فهؤلاء السادة.
وهذا الشخص لما ولي الوزارة وكنيته أبو المظفر ابن هبيرة رحمه الله، بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الارتفاع، وقال مرة في وزارته: والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه الله منها العلم وأهله، فسعيه للمال أو المنصب من أجل خدمة أهل العلم، وكان مع كونه وزيراً يُنفق أمواله في سبيل الله.
ولذلك قال مرة: ما وجبت عليَّ زكاة قط، وقال ابن الجوزي: كان يتحدث بنعم الله عليه ويذكر في منصبه شدة فقره القديم فيقول: نزلتُ يوماً إلى دجلة وليس معي رغيفٌ أعبر به، وكان من ورعه لا يلبس ثوباً فيه الإبريسم وهو الحرير على القطن ولو كان مخلوطاً بالقطن، فإن شك في ذلك سل طاقته ونظر في نسجه هل دخل فيه الحرير أم لا! ونظر هل القطن أكثر أم الإبريسم، إذا دخل فيه شيء من الحرير نظر أيهما أكثر، فإن استويا لم يلبسه.
قال: ولقد ذكر يوماً في بعض مجالسه فقال له بعض فقهاء الحنابلة: يا مولانا! إذا استويا جاز لبسه في أحد الوجهين عند أصحابنا، قال: إني لا آخذ إلا بالأحوط، والشاهد أنه كان مُكرماً لأهل العلم ويقرأ عنده الحديث، وعلى الشيوخ في حضوره ويجني من البحث والفوائد ما يكثر ذكره، وكان مقرباً لأهل العلم والدين كريماً طيب الخلق، وكان شديد الإيثار لمجالسة أرباب الدين والفقراء، بحيث كان يقول لبعض الفقراء: لأنت أخي والمسلمون كلهم إخوة، وكان أكثر ما يحضره الفقراء والعميان إذا مد السماط، فلما كان ذات يوم وأكل الناس وخرجوا بقي رجل ضرير يبكي، ويقول: سرقوا مداسي ومالي غيره، والله ما أقدر على ثمن مداسي، وما بي إلا أن أمشي حافياً وأصلي، فقام الوزير من مجلسه ولبس مداسه وجاء إلى الضرير فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرفه وقال: إلبس هذا وأبصره على قدر رجلك؟! فلبسه وقال: نعم.
لا إله إلا الله كأنه مداسي قال: خذه، فأعطاه إياه.
الرجل هذا لما مات رحمه الله تعالى من شدة كرمه وحلمه وخُلقه الحسن وخِدمته للمسلمين غُلقت أسواق بغداد وخرج جمع عظيم في الأسواق وعلى السطوح وعلى شاطئ دجلة وكثر البكاء عليه رحمه الله.
الشاهد من الكلام: أنهم كانوا يبذلون للدين على قدر طاقاتهم ومناصبهم وولاياتهم واستطاعتهم وأموالهم، وربما يكون الواحد ما عنده شيء فكان يوقف نفسه لأحد العلماء، كما جاء في سيرة القرافي أنه لما دخل بلداً جاءه شاب قال: وقفت نفسي عليك هذا اليوم، ماذا تريدني أن أفعل فعلت، كانوا يعملون ولو لخدمة العلماء إذا لم يجد ما يقدمه قام في خدمة أهل العلم، فهذا يكون مبلغاً في حلقة حديث لأنه صاحب صوت قوي مشترك في التبليغ، الأعرابي يشترك في تثبيت الإمام أحمد، حتى اللصوص في السجن سعوا في تثبيته رحمه الله تعالى، كل واحد كان يبذل ما يستطيع، هذه القضية الغائبة الآن عنا، كل واحد يبذل ما يستطيع.
ابن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة قال: أقيموني مع السارية وأعطوني العلم لأني أعمى ما أفر، ما أرى ما حولي أمسك لكم العلم، والشاهد -أيها الإخوة- أننا نحن الآن في مشكلة كبيرة وهي قضية عدم خدمة الإسلام من المواقع التي نحن فيها، والواحد إذا كان في موقع صغير احتقر نفسه قال: مالي شيء ولا أستطيع أن أخدم الإسلام في شيء، احت