[ثبات الدعاة والعلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية]
للعلماء للدعاة للخطباء للمربين دورٌ كبيرٌ في رفع المعنويات، لما قال بنو إسرائيل: {لَنْ نَدْخُلَهَا} [المائدة:٢٤] {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:٢٤] ماذا قال الرجلان من أولئك: {مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:٢٣] اقتحموا والله يأتي بالنتائج وبالنصر، افعلوا ما طلب منكم وما أمرتم به، قاتلوا واقتحموا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٢٣].
دورٌ عظيم يقوم به العلماء.
كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: أبو عمر البزار: كان من أشجع الناس وأقواهم قلباً.
يا إخوان! لا بد أن نأخذ العبرة من هذا، لا ندري متى تكون مواجهتنا مع العدو، فإذا واجهناهم فلا بد أن يكون هناك في المسلمين من يوقد الحمية في القلوب للقتال, ويكون عنصراً مثبتاً لهؤلاء في المواجهة.
كان أثبت الناس جأشاً، ولا أعظم عناءً في جهاد العدو منه، يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم.
وأخبر غير واحد أن الشيخ رضي الله عنه كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم هلعاً أو رقةً أو جبناً شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة، كان إذا ركب الخيل يتحنك, ويجول في العدو كأعظم الشجعان, ويثبت ويقوم كأثبت الفرسان, ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثيرٍ من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت.
وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أموراً من الشجاعة يعجز الواصفون عن وصفها، ولقد كان السبب في تملك المسلمين عكة بفعله ومشورته وحسن نظره كما ذكر في الأعلام العلية وقال: ولما ظهر السلطان غازان على دمشق جاءه ملك الكرج وهو ملك كافر معه كفار يطلب من غازان أن يملكه من رقاب المسلمين ليفتك بهم، ووصل الخبر إلى الشيخ؛ فقام من فوره، وشجع المسلمين، ورغبهم في الشهادة، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف، وانتدب منهم رجالاً من وجوههم وكبرائهم فخرجوا إلى غازان، فلما رآهم السلطان قال: من هؤلاء؟ قيل: إنهم رؤساء دمشق.
فأذن لهم، وحضروا بين يديه، ثم تقدم الشيخ أولاً، فلما أن رآه السلطان أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة، حتى أدناه من مجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام أولاً في عكس رأيه عن تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين، يريد ألا يوافق على هذا، وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكره ووعظه، فأجابه إلى ذلك طائعاً، وحقنت بسببه دماء المسلمين، وصين حريمهم.
وكان -رحمه الله- لما وقع الخوف في دمشق وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتر لكثرتهم، يعني: لو اجتمعت العساكر المصرية والشامية لن تقف أمام التتر، وأن عليهم الانسحاب، وتحدث الناس بالأراجيف، واجتمع الأمراء يوم الأحد بالميدان، وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد ألا يرحل أحد منه، فسكن الناس، وجلس القضاة بالجامع، وحلف جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وحلفوهم عليه، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم فأعلمهم بما تحالف عليه الناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.
وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله عز وجل مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:٦٠] وهكذا كان يدور على الجيش ويفتيهم، وكانت المعركة في رمضان فيفتي بالفطر مدة قتالهم، ويأكل هو بنفسه أمام الناس أشياء ويقول: أفطروا فالفطر أقوى لكم، ويستدل لهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما صارت سنة سبعمائة للهجرة، وحصلت الفتنة في دمشق وهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية، ووردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر أيضاً، انزعج الناس، وازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرج والشوبك والحصون المنيعة، حتى بلغ ثمن الحمار الذي يوصل إلى مصر خمسمائة دينار، وبيع الجمل بألف دينار والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب بأرخص الأثمان، لأن الناس تبيع متاعها وتهرب من البلد.
أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فقد جلس بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً، وأوجب جهاد التتر حتماً، وتابع المجالس في ذلك، كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية.
هذا دور العلماء، هذا دور طلبة العلم، إذا جد الجد وحصل الالتحام مهما كان الكفار أكثر عدداً وعدةً فعند ذلك لا بد من نفخ روح الحمية للقتال في الناس والصبر وعدم الهرب.