شرح حديث عمرو بن سلمة في إمامته صبياً
وعمرو بن سلمة رضي الله عنه ليس له في صحيح البخاري إلا هذا الحديث، وله ذكر في حديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة، يقول: كنا بممر الناس، كل واحد يرجع من المدينة يمر علينا، وكنا نسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فنقول: ما للناس؟ ما للناس؟ ما لهذا الرجل؟ وهكذا كثير من العرب كانوا في موقف المتفرج يقولون: ننتظر ماذا تسفر عنه المواجهة بين هذا الرجل وبين قومه قريش، إن انتصرت قريش ارتحنا، وان انتصر هو تبعناه، كانت العرب تمشي على قاعدة المشي مع الغالب، ولذلك كانت المعارك التي بين النبي عليه الصلاة والسلام وقريش معارك حاسمة، يتوقف عليها المستقبل للإسلام؛ مثل معركة بدر وفتح مكة فهي معارك حاسمة جداً، يتوقف عليها مستقبل الدين، ليست مثل المعارك الآن، الآن مهما هزم المسلمون فالإسلام باق منتشر، ولا يمكن اقتلاعه من الأرض، أما في أول الإسلام فالإسلام محصور في المدينة، وفي بعض القبائل وفي مكة وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) إذا قضي عليها في بدر فلن تقوم للإسلام قائمة، ولذلك الصحابة الذين شهدوا بدراً أجرهم أعظم ممن يشهد المعارك الأخرى، لأن هذا داخل في معركة ينبني عليها مستقبل الإسلام في الأرض، ولما انتصروا في المعارك ونصرهم الله كان هذا النصر سبباً في انتشار الدين.
ومن حساسية هذه القضية وخطورتها يقول عمرو بن سلمة رحمه الله ورضي عنه: إن كثيراً من العرب كانوا يتلومون أي: ينتظرون ويؤخرون البت في الأمر حتى يروا ما ستسفر عنه المواجهة، ومن الذي سيحسم الموقف، ولمن سيستقر الأمر، ثم بعد ذلك يحددون موقفهم.
فلذلك كانوا يقولون: ما للناس؟ ما للناس؟ ما لهذا الرجل أوحي إليه كذا؟ فيأتي العائدون من المدينة بقرآن، وكل مسافر يرجع وقد سمع شيئاً ويقول: إن محمداً يزعم أن الله أرسله أوحي إليه الله إليه بكذا.
من الذي كان يهوى الجلوس إلى هؤلاء المسافرين ويجلس معهم ويسمع كلامهم؟ إنه عمرو بن سلمة، وكان غلاماً حافظاً رزقه الله ذاكرةً قوية، يقول: فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً، فكأنما يقر -أي: هذا القرآن- فكأنما يقر في صدري- يجمع وفي رواية: يغري -أي: يلصق بالغراء، كأنك لصقت شيئاً بالغراء فليس بقابل للإزالة- وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، أي يؤخرون.
وهذا يدل على مسألة مهمة، وهي أن على الدعاة وأهل الإسلام أن يقدروا أن هناك أناساً موقفهم متوقف على من سينتصر، هناك كثيرٌ من المتفرجين في الأرض إسلامه يتوقف على من الذي سينتصر، فالضعفاء والمتشككون في الدعوة والمنتفعون وأهل الدنيا يقولون: ننتظر من الذي سيفوز، من الذي سينتصر.
وهذا موقف يتكرر كثيراً، وهو أن بعض الناس يتربصون لمن سيكون الانتصار، إن كان للإسلاميين كانوا معهم، وإن كان مع العلمانيين المنافقين كانوا معهم، وهكذا هم مع الغالب.
قال: فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌ صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح -أي حين فتحت مكة وحسم الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام- بدأت أفواج العرب تأتي، كل المتفرجين مالوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وحسموا موقفهم معه، لأن قريشاً هي القيادة في العرب، فما دامت القيادة قد سقطت وآل الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام وصار هو القيادة للعرب، جاء كل العرب يبايعونه، ولذلك قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:١٠].
وقد كان صلح الحديبية بالذات نقطة تحول، ولذلك سمي فتحاً مبيناً.
قال: وبدر أبي قومي بإسلامهم؛ وكان من هؤلاء المتفرجين بنو جرم -قوم عمرو بن سلمة - وكان أبو عمرو بن سلمة من زعمائهم، فانتقى بعض الأشخاص من بني جرم، وذهب بهم إلى المدينة، يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلنون الدخول في الدين، ولقيهم النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منهم وعلمهم الصلاة وسمع منهم ما سمع، وكان من ضمن المعلومات التي نقلها أبو عمرو بن سلمة قوله صلى الله عليه وسلم: (وليؤمكم أكثركم قرآنا) لأنهم قالوا: يا رسول الله من يؤمنا؟ عرفنا الصلاة فمن الإمام؟ قال: (أكثركم جمعاً للقرآن).
قال: فنظروا إلى حوائنا -مكان النازلين يسمى حواء- من أحفظ واحد، فإذا به عمرو بن سلمة فكانت المفاجأة أن هذا الغلام الذي لم يكن يُعمل له حساب وفقه الله أنه كان يحفظ من المسافرين، ويسمع من المسافرين وعنده ذاكرة قوية، واتضح أنه هو أبرز واحد في حفظ القرآن، فكان هو المستحق لأن يكون إماماً، ولذلك قدم في الصلاة، فالأحداث تبرز الأشخاص.
لم يكن في الحسبان أن عمرو بن سلمة يؤم قومه، لكن جاء حديث: (ليؤمكم أكثركم جمعاً للقرآن) وعُمل مسح للقوم، فإذا بالفائز والمتقدم والمتصدر عمرو بن سلمة، لكن القوم كان فيهم فقر، ما كان على الغلام إلا شملة مشقوقة -إزار مشقوق قصير- وكان النساء يصلون خلف الرجال، وكذلك ربما يرونهم من الخيام ومن النُزل التي ينزلون فيها، فكان إذا سجد انكشفت عورته، فقالت امرأة: ألا تغطون عنا است قارئكم، وفي رواية: واروا عنا عورة قارئكم، بما أن هذا هو الإمام وهو القارئ فغطوا عورته.
ربما لم يكن عندهم علم بأن كشف العورة يبطل الصلاة، أو أن هذا الغلام ما كان له شيءٌ يستره، أو ما كانوا يأبهون كثيراً بتغطية عورات الغلمان، لكن لما اقترحت العجوز تغطية عورة الغلام، اشتروا له ثوباً وفي رواية: قميصاً عمانياً، وعمان تابعة لمنطقة البحرين التي سبق ذكرها.
وقد ورد في الحج من عمان حديثٌ لا بأس به: (أن الحج من عمان يعدل حجتين) أي أن أجره مضاعف، وعمان هي المنطقة المعروفة، وهذا من فضائل عمان نسأل الله أن يشيع السنة فيه.
فيقول: اشتروا لي قميصاً عمانياً، ويبدو أن هذه المنطقة كانت تصنع فيها القُمص؛ والقميص يشبه الثوب الذي نلبسه الآن، كان يطلق عليه في الماضي قميص، قال: فما شهدت مجمعاً من جرمٍ إلا كنت إمامهم فاستمر عمرو بن سلمة يصلي بقومه ما شاء الله من الفرائض والنوافل والجنائز.