للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاجتماعات على غير فائدة شرعية]

ومن الأمور التي تضيع الوقت وتستهلكه الاجتماعات على غير فائدة شرعية، قال ابن القيم رحمه الله: الاجتماع بالإخوان على قسمين: أحدهما اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.

فمن أكبر الأشياء التي تضيع الوقت النقاشات غير المفيدة أو غير الهادفة في بعض المجالس، مثل: النقاش ليثبت كل شخص من المتناقشين أنه على الصواب وأن الآخر على الخطأ من غير أدلة وتجرد، واجتماع الناس هكذا على حب التسلية وتمضية الوقت ينبغي أن ينتبه لها المسلم جيداً، فبعض الشباب لا يرد أحداً طلب منه أي طلب وإن كان تافهاً أو كان سيضيع عليه شيئاً أهم، فيأتي شخص يطرق عليه الباب، ويقول له: تعال معي، نريد أن نذهب فيخرج معه، يتصل له شخص بالهاتف، فيذهب معه وهكذا.

والحل: لا بد أن نتعلم الاعتذار المهذب عن كل عمل يصرفنا عن الغاية التي نسعى إليها، ولا بد أن نعتذر بلباقة عن كل انشغال يشغلنا به الفارغون، صحيح أنه قد يأتيك وشخص وتعتذر وقد يضغط عليك ويطلبك عدة مرات، والفوضويون يتخذون القرارات لحظياً ويمرون على من يعرفون ويقولون: تعال معنا وهكذا.

فليحذر العاقل هؤلاء البطالين، فما لم تكن تلك الروحة مهمة كشيء طارئ، مثلاً قيل لك: شخص توفي وهو يدفن الآن، فعليك أن تذهب إليه، قيل لك: إن فلاناً في المستشفى الآن وهذا وقت الزيارة، فعليك أن تذهب، فإنه من طاعة الله، كذلك تلبية حاجة الأبوين إذا طلب منك فعل ذلك.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: لقد رأيت خلقاً كثيراً يترددون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ويطيلون الجلوس، ويدلون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، ويتخلله غيبة، فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء؛ كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقلت: لا أذهب معكم، وقعت وحشة، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان.

فيقول رحمه الله: فصرت أدافع اللقاء جهدي -كلما أتى واحد من هؤلاء البطالين- أؤجل الموعد، فإذا غلبت -صار لا بد أن يدخل عندي- قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، وبعضهم قد يلجأ إلى أساليب جيدة، فإذا أتاه شخص وهو مشغول؛ فإنه يقف، فيشعر الآخر بأنه لا يريد أن يقعد؛ فينصرف.

ويقول ابن الجوزي رحمه الله متابعاً: ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة، ولكن لا بد منها لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد -لدى ابن الجوزي كتابات وتصنيفات ومصنفات يريد أن يكتبها- وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي.

انظروا كيف يحافظ العلماء على أوقاتهم، ولا بد من تعويد الآخرين على احترام وقتك، بعض الناس لأنه متسيب وليس عنده ثبات؛ فيأتي إليه الأشخاص الآخرون ببساطة وسهوله؛ لأنه ليس عنده ما يوقفهم عند حدهم، وتعويد الآخرين على احترام وقتك يكون بالتلميح أحياناً أو بالتصريح إذا لم يفهموا، وخذ على ذلك هذا المثال: دخل أناس على رجل من السلف فقالوا: لعلنا شغلناك، فقال: أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم.

أي: إذا أردتم الصراحة فقد شغلتموني، لقد كنت أقرأ وعندما أتيتم تركت القراءة لأجلس معكم.

وكان ابن المبارك رحمه الله قد افتقده أحد أصحابه مرة، فقال: مالك لا تجالسنا؟ فقال ابن المبارك: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين.

أي: أنه يقرأ في سيرهم وتواريخهم وهكذا.

وعدم الحزم في مواجهة مضيعي الأوقات مشكلة، وبعض المزورين لا يصبر على الوحدة ومتى لأن المزور؛ طمع الزائر، ولذلك تجد بعض الناس يعلقون على أبوابهم، مثلاً: الرجاء ممنوع الإزعاج، لكن هذه اللافتة تصبح ليست ذات معنى؛ لأنه لا يرد أي طارق ويفتح لكل أحد ويضيع الوقت.

وهنا ننبه إلى مزلق نفسي خطير، بعض الناس يظهرون الانشغال، وكلما جاء أحد يقول: أنا مشغول لا تكلمني، وهكذا ليس عندي وقت، ويمشي بسرعة في الممرات والطرقات، ويتظاهر أنه إنسان قد بلغ القمة في الانشغال، وإذا حاول أحد أن يستوقفه ابتعد، هذا قد يكون فيه شيء من الكبر والغرور والتظاهر بالانشغال.

لقد رأيت من أهل الفضل من أعلم أنه في غاية الانشغال بالعلم وانقطاع عن الناس، لكن إذا أتيته تجده كأنه متفرغ لأجلك، والناس طرفان: منهم من يستقبلك ويلبي طلباتك وهو مشغول على قدر وسعه وطاقته، ومنهم من يظهر نفسه أنه مشغول وهو فارغ، وهذا شيء خطير، فالمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، وبعض الناس عندهم عقدة، فيريد أن يظهر أنه منشغل وهو فارغ.

كانت الجارية تأتي وتذهب بالرسول صلى الله عليه وسلم ليقضي لها حاجتها، فيذهب معها ويقضي لها حاجتها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان مشغولاً، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عنده من الوقت ما يداعب به أهله ويلاعب به الصبيان ويقضي حوائج الناس، ولم يقل لأحد إذا أتاه: أنا مشغول، ابعد عني لا تكلمني.