[حكم السماع]
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أيها الإخوة: وأما حكم السماع فهو بحسب المسموع، فإن كان المسموع يحبه الله فقد يكون واجباً أو مستحباً، وإن كان يبغضه الله فهو محرم، وإن كان مما سكتت عنه الشريعة فهو سماع مباح، ولهذا أمثلة كثيرة: فمن السماع الواجب: سماع القرآن، وخصوصاً في الصلاة.
ومن السماع المقابل لهذا السماع المحرم قول الله عز وجل فيما يصف به المؤمنين: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:٥٥]، وهذا من إعجاز القرآن وبلاغته، فإن كلمة اللغو تشمل جميع المحرمات بل والمكروهات من المسموعات؛ ولذلك كان من الأمور المحرمة سماع الكذب والأخذ والتصديق به، وسماع الغيبة وسماع النميمة.
ومن المسموعات كذلك المذمومة ما ذم الله تعالى في كتابه نفراً، فقال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:٤٧]، ومعنى سماعون لهم: أي: مستجيبون لهم.
واليوم يقدم كثير من المسلمين ليعيروا آذانهم لأعداء الله ليسمعوا منهم الباطل، ويسمعوا منهم ما يقال عن دعاة الإسلام، ويسمعوا منهم الشبهات التي تحاك وتدار حول الدين إنهم يسمعون منهم الأوامر التي فيها هدم للدين، والله نهى عن الركون إليهم، وعن الاستماع إليهم.
وكذلك من أنواع المسموعات المحرمة المخربة تخريباً شديداً في المجتمع المسلم: سماع الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الأخ وأخيه الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الملتزم بدينه ومن يلتف حوله الوشاة الذين يريدون أن يخربوا المجتمع الأخوي المسلم إن على الواعين من المسلمين وغير الواعين أن يعوا هذه المسألة؛ وهي مسألة سماع الوشاة.
وسماع الوشاة له أمثلة كثيرة وصور عديدة، فإن بعض الناس لا يدققون فيما يسمعون، ولا يطلبون البينة على الاتهامات الباطلة التي يسمعونها، بل إنه يعطي سمعه لكل أحد صادقاً أو كاذباً؛ وهذا -أيها الإخوة- أمر خطير يُؤدي إلى اتهام البريء، وقد يؤدي كذلك إلى تبرئة المذنب، وكم من بيوت قد خربت، وعلاقات قد فصمت وانقطعت بسبب سماع كلام الوشاة! ومن المسموعات المذمومة كذلك: سماع الصوفية المنحرفين كالغناء والألحان التي أوردنا ذكر بعضها، بل إنهم يوهمون غيرهم من السذج أنهم يسمعون الجماد، وأنهم قد وصلوا إلى مستويات إيمانية عالية، قال أحدهم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة، فقال: يا أبا عبد الرحمن: أتدري ماذا تقول هذه البكرة؟ فقلت: لا.
قال: تقول: الله الله.
انظروا إلى هذه الخرافة، وإلى هذه التراهات التي ينطق بها هؤلاء! ولئن كنتم لا تسمعون أنتم في واقعكم مثل هذه الخرافات فإن في بيئات أخرى ومجتمعات أخرى أناساً عندهم هذا الغلو وأضعافه، فينبغي أن يكون المؤمن حذراً يقظاً وهو يسمع مثل ذلك الكلام.
وما أحسن أن يستمع المسلم إلى شكوى أخيه المسلم؛ أن يستمع الموظف -مثلاً- إلى شكوى مراجع فيقضي له بالحق وينصفه، وكثير من الناس الذين أُكلَت حقوقهم اليوم إنما سبب ذلك عدم سماع شكاويهم، وعدم إنفاذ الحق فيها، ولذلك لا بد من سماع شكوى المظلوم وإحقاق الحق له، وما أحلى أن يسمع الأخ المسلم الهمَّ الذي يعتلج في نفس أخيه فيفرج همه، وما أحلى أن يسمع ما يدور في خاطره من أنواع الهموم فيسري عنه! وما أحلى أن يسمع مشاكله فيحل له تلك المشاكل، ويوجد له العلاجات والحلول لهذه الأشياء التي يعاني منها.
إن السماع والإنصات مهم جداً في إيجاد الحلول للناس، فعلى دعاة الإسلام أن يفقهوا هذه المسألة، وإن سماع كلام أهل العلم من أقرب العبادات إلى الله عز وجل، فبها تزول ظلمات الجهل والشك والريبة.
والحديث طويل -أيها الإخوة- في أنواع السماع، ولكن وصيةٌ أخيرة نوصي بها أنفسنا -جميعاً- ونحن نعيش في أتون الجاهلية المحرقة، التي يراد من ورائها إسماعنا أشياء لا نريد سماعها، بل إنه حتى على مستوى البيت، فإنك تجد إنساناً شاباً قد التزم بدين الله، فيأتي فاسق من الفسقة في ذلك البيت فيرفع صوت الأغنية مثلاً إلى أقصى حد نكاية بذلك الملتزم بدينه، وحتى يسمعه رغماً عنه، وهنا لا بد أن يستعيذ المسلم بالله من شر ما يسمع، وما يفرض عليه أن يسمع، وما يراد منه أن يسمع؛ لكي يسير في طريق الشيطان، وعليه أن يعتصم بالله، فكأنه موجود وغير موجود، فهو في عزلة شعورية عن هذا الواقع الفاسد، لا يسمع المحرمات، ويحاول أن يشغل نفسه بسماع الأشياء الطيبة، وأن يعتزل تلك المجالس، ولذلك فرق علماؤنا بين السماع والاستماع، ولمَّا تحدث ابن القيم رحمه الله عن قصة ابن عمر عندما كان يسير فسمع مزمار راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع ذلك، قال: ولا يجب على كل مسلم أن يفعل هذا، بل إنه إذا وجد في نفسه نفرة من ذلك؛ كإنسان يسير في الشارع فسمع غناءً من بيت، فلا يجب عليه أن يغلق أذنيه بإصبعيه، ولو فعل ذلك لكان أمراً محموداً، ولكن ما دام أنه يحس بنفرة مما يسمع وبكراهية لما يسمع، فهو لا يستمع لها ولكنه يسمعها، فهو لا ينصت لها ولا يتأثر بها، أما إذا أحس في قلبه تأثراً، أو وجد في قلبه ميلاً للسماع فبدأت مرحلة الاستماع؛ فإن عليه أن يغلق أذنيه، وعليه أن يهرب من ذلك المكان بأسرع وقت ممكن.
اللهم يا عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، يا فاطر السماوات والأرض أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك.
اللهم واجعل ما نسمع من طاعتك، اللهم وأبعدنا عن المحرمات من المسموعات، اللهم وافتح أسماعنا لكل من يريد أن يخبرنا بحق، أو يدلنا على حق، أو يأمرنا بحق، اللهم وأغلق آذاننا أمام كل من يريد أن يجرفنا إلى منكراً، أو يسمعنا منكر، اللهم واجعلنا من عبادك الذين يخشونك بالسر والعلانية، اللهم واجعلنا ممن أحببتهم وأحبوك، واقذف في قلوب عبادك حبنا، واجعلنا ممن يحبك ويحب من يحبك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.