ومع موقف آخر لأثر من آثار هذا الدين في نفس أحد العلماء في هذا العصر، الذي يتبين لك به -يا أيها المسلم- عزة العالِم وتعففه وجرأته وعدم رضوخه للترهيب، ولا استجابته للترغيب: كان الشيخ سعيد الحلبي من كبار الأساتذة في القرن الماضي، كان يلقي مرة درساً في جامعٍ من جوامع دمشق، فجاء إبراهيم باشا -الحاكم في وقته، وهو من القسوة والعنف والجبروت والاعتداء والقتل والبطش بمكان- ودخل المسجد مع بعض شرطته وعساكره، ووقف أمام الباب، وكان الشيخ يشكو ألماً في رجله، وكان مادَّاً رجله إلى الأمام؛ لأنه كان مستنداً إلى جدار المحراب ويلقي الدرس، ورجله ممدودة للعلة إلى باب المسجد.
فدخل هذا الوالي المعروف بظلمه ومعه العسكريون والشرطة، ووقف بالباب ينظر إلى الشيخ، وانتظر أن يقبض الشيخُ رجلَه احتراماً له؛ لكن الشيخ لم يفعل، فخاف التلاميذ على شيخهم من السيف، وقبضوا ثيابهم لئلا تصاب بدمه؛ ولكن الوالي وقف برهةً ثم انصرف ورجع.
وبعد ذلك استدعى أحداً من خدمه، وأعطاه صُرَّةً من الدنانير الذهبية، وقال له: تقدم إلى سيدنا الشيخ، وقل له: هذه هديةٌ من إبراهيم باشا.
فلما جاء بها الخادم إليه، قال الشيخ كلمته المشهورة التي تغني عن ألف كتاب، قال له: قل لسيدك: إن الذي يمد رجله لا يمد يده.
وهذا مثال من أمثلة علماء الحق وعلماء الشريعة الذين زخرت بهم هذه الأمة، وهو شاهدٌ آخر من الشواهد على أن الله سبحانه وتعالى يقيض لهذا الدين مَن يقوم به، وأن الله سبحانه يَخْلُق رجالاً، يصطنعهم للمواقف، تجري بسِيَرِهم الركبان.
إنه دليلٌ على أن هذا الدين باقٍ، وأن الله سيبعث له من يجدده في كل رأس مائة سنة، فاستبشروا برحمة ربكم يا أيها المسلمون!