بعد أن بلغ الطبري رحمه الله مبلغاً في أول شبابه بدأ رحلته العلمية إلى البلدان المجاورة في بلاد فارس، وتنقل بين مدن طبرستان، كانت عادتهم، أولاً: يأخذ عن مشايخ بلده، وإذا انتهى؛ يبدأ فيما حوله من البلدان، فاتجه بعد ذلك أبو جعفر إلى الري وما جاورها ليأخذ عن علماء الحديث واللغة والتفسير، يتنقل كالنحلة من شيخ إلى شيخ من عالم إلى آخر، فأول ما كتب الحديث ببلده، ثم بـ الري وما جاورها وأكثر عن الشيوخ.
وأكثر في أول أمره عن شيخين، هما: محمد بن حميد الرازي، والمثنى بن إبراهيم الأبلي، ويقول: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج إلينا في الليل مرات، ويسألنا عم كتبناه ويقرؤه علينا، وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي، وكان في قرية من قرى الري، بينها وبين الري قطعة نأتي إلى الشيخ محمد بن حميد الرازي نجلس عنده، ثم نمضي إلى الدولابي، وإذا انتهينا من درس الدولابي؛ يكون قد حان موعد درس الرازي وبينهما مسافة -أي: قريتين- قال: ثم نغدو كالمجانين حتى نصير إلى ابن حميد فنلحق مجلسه نغدو كالمجانين -أي: من السرعة في العدو للحاق بدرس الشيخ، فمن شيخ في قرية، إلى شيخ في قرية، ثم العودة إلى الشيخ الأول بهذه السرعة، كل ذلك ينم عن وجود دافع قوي للتحصيل؛ حتى أن الواحد لا يكاد يلحق في حضور كل هؤلاء، فيكون وقته مزدحماً بدروس العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:(منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال) منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها، وإذا كان الطبري رحمه الله عنده هذه النهمة في طلب العلم؛ فلذلك لن يهدأ له بال حتى يطوف ويحصل، ومن شيخ إلى شيخ، ومن حلقة إلى حلقة، ومن درس إلى درس.
وهكذا امتدت الحياة لهذا الإمام رحمه الله ليذهب إلى أمصار مختلفة، ويأخذ الحديث من أفواه الأئمة مباشرة.