صبر الشيخ ابن عثيمين معلماً
وأما عن صبر الشيخ في التعليم: فقد صبر عالماً ومعلماً، واتجه الشيخ للتعليم من مرحلة مبكرة من عمره، فدرس قريباً من خمسين عاماً، نصف قرنٍ من الزمان أنفقها ذلك الشيخ -رحمه الله- في تدريس دين الله، وكان قبل أن يشتهر مواظباً على التدريس مهما كان عدد الحضور، حتى إنه كان لا يحضر عنده في بعض الأوقات إلا أربعة أشخاص، وأحياناً يغيب نصفهم، ومرة جاء الشيخ إلى مكان الدرس فلم يجد إلا كتاباً وضعه أحد الطلاب في مكان الحلقة وانصرف لشيءٍ، فلما رأى الشيخ ذلك، توجه إلى المحراب وأخذ مصحفاً وجلس يقرأ فيه، فجاء الطالب ووجد الشيخ يقرأ ولا يوجد إلا كتابه فاستحيا وأخذ الكراس وانصرف.
وظل الشيخ مصابراً حتى فتح الله عليه، فصار يجلس في حلقته نحو خمسمائة طالب، وفي درسه في الحرم ومحاضراته الخارجية أضعاف هؤلاء، وصبر على الإفتاء في شتى المجالات، ورتب الدروس والمحاضرات.
وكان له رعاية لطلابه، وكان يكلف بعضهم بمراجعة الأحاديث، أو تحرير بعض المسائل، وينظر في ذلك كله ويتابعه، بل كان يجعل بعضهم يدرس بعض المبتدئين.
وقد سعى الشيخ -رحمه الله- إلى توفير سكنٍ للطلاب المتزوجين وغير المتزوجين، وهيأ لهم داخل السكن مكتبة تضمنت سائر أنواع الفنون، وكان حريصاً على تمرين طلابه على إلقاء الكلمات، وذلك في كل ليلة جمعة بعد المغرب وقبل الدرس، وكان حريصاً على طلابه، فإذا مرض أحدهم وأدخل المستشفى زاره فيه إن استطاع، وإذا صار الطالب المريض في مسكنه زاره في غرفته في العمارة المخصصة إن كان من العزاب، وفي شقته في عمارة المتأهلين إذا كان متزوجاً.
وكان يتفقد طلابه ويعينهم وخصوصاً بالشفاعات، وكم دخل من طلابٍ الجامعة بسببه، وعولج أشخاص بسببه، وقضيت حاجات بتدخله وشفاعته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) رواه البخاري.
وفي فصل الشتاء كان يعطي طلاب السكن أوراقاً بمبالغ مالية محولة على محلاتٍ معينة ليشتروا بها ملابس شتوية لأنفسهم ولأولادهم، وكان يتابع تلامذته أثناء الدرس حتى لا يشرد ذهن أحدهم فتضيع عليه الفائدة، وذات مرة كان أحد تلامذته غير حاضر الذهن في الدرس، فأوقفه الشيخ وقال له: هل أنت فاهمٌ لما قلته؟ فقال الطالب: إن شاء الله، فقال الشيخ: هل على رأسك شماغ؟ فقال الطالب: نعم، فقال الشيخ: لِمَ لم تقل: إن شاء الله؟ لكنك عندما كنت غير فاهم للدرس قلت: إن شاء الله، والشماغ جزمت به! وكان له مع طلابه رحلة في كل ثلاثة أشهر يآنسهم فيها ويقيم مسابقات لهم بنفسه، ويخرج معهم إلى بعض المزارع المشتملة على أماكن للسباحة، وقد يلاطفهم فيأمرهم أن يغطسوا هذا، ويرموا هذا في الماء، وينتقي البدين، ولما أعرب أحدهم عن شكه في قدرة الشيخ على السباحة أثبت له ذلك عملياً، وسابق الشيخ بعض طلابه على الأقدام.
وكان رحمه الله عالماً مؤدباً، لا يأذن لمن رفع يده الشمال في الدرس أن يجيب، ويأمر من دخل المجلس أن يصافح الأكبر سناً ثم من عن يمنيه، ودخل المسجد رجلٌ ومعه ولده المميز والولد لابسٌ حذاءً في قدميه في المسجد، فأراد الولد أن يسلم على الشيخ، فرفض الشيخ حتى يخرج الولد فيخلع نعاله خارج المسجد ثم يأتي فيسلم إذا أراد، ففعل الولد وخرج وخلع نعاله، ثم جاء وسلم على الشيخ فرد عليه وهش له، فخاف الأب أن الولد قد نفر من المسجد أو من الشيخ، فراقبه قال: فصار ولدي بعدها لا يمكن أن يدخل المسجد بحذائه.
وربما يشتد الشيخ أحياناً على بعض السائلين تأديباً لهم لمخالفتهم للأدب معه، وما ترى من شدة في الشيخ أحياناً فلأنهم اجترئوا عليه، وربما لأجل هذا التأديب يشتد أحياناً.
وكان للشيخ -رحمه الله- أدوارٌ عالمية، تمثلت في عدة جوانب، ومنها: إلقاء الدروس الشهرية وغيرها عبر الهاتف لبعض المراكز الإسلامية في أقطار الأرض، واتصاله بالأوضاع المأساوية التي حدثت في بلاد المسلمين، وأرسل بعض طلابه للتدريس وللدعوة في الخارج، وشارك في إرسال الكتب والأشرطة، ومراسلة المستفتين من الخارج بكتابات مدونة بخط يده، وهكذا.