[حكم إرادة الدنيا مع العمل لله]
ومنها أن بعض الناس يعملون لله ولكن يريدون أشياء دنيوية مع هذا العمل: كرجلٍ خرج للحج والتجارة، فحجه ليس بحابط قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:١٩٨] لكن أجر الذي خرج للحج والتجارة ليس مثل أجر الذي خرج للحج فقط، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن السرية إذا خرجت للجهاد فغنموا أنهم تعجلوا ثلثي أجرهم وبقي لهم ثلث الأجر فقط، ولكن إذا ما غنموا شيئاً كان لهم الأجر كله، ولو أنهم خرجوا في سرية فلم يصابوا، كان أجرهم غير الذين خرجوا فأصيبوا، وهذا معنى قول الصحابي: [منا من مات ولم يأخذ من الدنيا شيئاً] مثل مصعب بن عمير ما أخذ شيئاً وكل عمله كان جهادياً وانتهى بالموت شهيداً في سبيل الله، ومنهم من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنهم من أخره الله عز وجل ورأى الفتوح وأخذ من الغنائم وليس في ذلك شيء، ومن هذا الباب ما يأخذه مدرس الدين أو إمام المسجد على عمله، إذا لم يكن يعيش إلا به، فهذا يجوز له أن يأخذه، لكن لا شك أنه إذا احتسب التعليم والأذان أو الإمامة دون أجرٍ فهو أفضل، مثل المجندين الذين لهم رواتب من بيت مال المسلمين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هؤلاء يجاهدون في سبيل الله ولهم رواتب، رواتبهم لا تحبط جهادهم وأعمالهم؛ لأنهم أخذوها ليستعينوا بها على المعيشة، لكن لو كان عنده مصدر كسب آخر، فالأحسن له أن يتصدق بها، والضابط قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل الذي يتعلم العلم- الذي هو يعمل به لله يعني: علم الشريعة- يبتغي به الدنيا يكبه الله في النار) أقول: فرق بين الذي يدرس الشريعة ويأخذ مكافئة الطالب، وبين الذي يأخذ مكافئة الطالب ليدرس، وفرق بين الذي يدرس الدين في المدارس ليأخذ الراتب، وبين الذي يأخذ الراتب ليدرس الدين في المدارس، وفرق بين الذي يحج عن واحد ويأخذ المال، وبين من يأخذ المال ليحج فإن قلت لي: لم تصل الفكرة بعد فأقول: الذي يحج ليأخذ، قصده المال، والوسيلة الحج، فهذا مذموم تماماً؛ لأنه جعل الحج وسيلة للتكسب، مثلما يعمل كثير من الناس اليوم، فهذا يحج ليأخذ فجعل الأخذ هو الهدف، والحج هو الوسيلة للتكسب مثل أي مهنة، يحج عن العالم ويأخذ فلوس.
كذلك الذي يدرس الشريعة ليأخذ مكافئة الطالب، الهدف هو المكافئة، والوسيلة هي دراسة الشريعة، وليس لديه كلية ثانية تقبله فقال: آخذ من ورائهم المكافئة، لكن فرق بين هؤلاء وبين من يأخذ المال ليتقوى به على الطاعة ويعيش ليتمكن من أداء العمل.
افرض أن إمام مسجد ليس له دخل إلا راتب الإمام، هذا الرجل إذا لم يأخذ الراتب فإنه سيشحذ من الناس فيهين نفسه، فيأخذ الراتب من بيت مال المسلمين لكي يساعده على أداء الإمامة، فتكون الإمامة هي الهدف والراتب هو وسيلة.
الذي يدرس الدين في المدارس إذا كان قصده الراتب، ولو ما أعطوه الراتب ما درس شيئاً، ولو خفضوا الراتب خفض التدريس ولو نزلوا الرواتب لم يهتم بالتحضير، فيتأثر الإخلاص ويصير هدفه الراتب، والوظيفة هي وسيلة تدريس الدين للطلاب، كونه يعلمهم أحكام الصلاة والطهارة والزكاة والتوحيد والشرك، وهذا مذموم متوعد يوم القيامة.
وفرق بين من يحج ليأخذ وبين من يأخذ ليحج، والناجي هو الذي يأخذ ليحج؛ لأنه لا يستطيع أن يشتري تذكرة الطائرة حتى يحج بها مثلاً عن فلان، كيف يشتري تذكرة طائرة؟ كيف يتنقل بين المشاعر بسيارات الأجرة؟ كيف يشتري لوازمه من الطعام والماء واللازم له في عرفة ومزدلفة ومنى؟ فإذاً أخذ المال صار وسيلة والحج هو الغاية، غايته أن يحج حتى يبرئ ذمة ذلك الشخص الذي لم يحج مثلاً.
ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: [التاجر- يعني في الحج مثلاً أو الجهاد والمستأجر والمكاري- الذي يؤجر الدابة- أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم] فإذا هو خرج قال: ما دام أني خارج للجهاد فلأتكسب، مثلاً أبيع أشياء على الجيش، أبيع طعام على الجيش مثلاً، أو ما دام أني ذاهب للحج فسوف أبيع لي شيئاً، هذا أجره على قدر نيته؛ لأن بعض الناس يفوتون بعض الأشياء في الحج من أجل التجارة يقول: أنا ذاهب الحج، فقد يفوت بعض الأحيان واجبات ويفوت سنناً ويفوت أشياء كثيرة من أجل الكسب والتجارة في الحج، فهذا أجره على قدر نيته ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وأحياناً يكون العمل خالصاً لله إلى النهاية ويطلع عليه بعض الناس فيمدحون صاحبه، مثلاً دخل رجل فجأة فرآك تصلي في الليل، أو استيقظ أحدٌ من أهلك فرآك تصلي، العمل في هذه الحالة صحيح، وكون الله عز وجل قدر أن يطلع على عملك بعض الناس دون قصدٍ منك ودون أن تختار مكان يسهل اطلاع الناس عليك فلا عليك حرج، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده الناس عليه فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم، فما قال الرسول صلى الله عليه وسلم رياء ولا حبط العمل؛ لأن الرجل ما قصد أن يطلع الناس على عبادته.
فإذاً من عمل لله خالصاً هذا أعلى المراتب، ومن عمل لا يريد إلا الدنيا فعمله حابط، ومن قصد الدنيا مع قصد الله فعمله أيضاً حابط، ولكن إذا طرأ عليه الرياء فجاهده فالحمد لله، فإن استمر معه نقص من أجره بقدر هذا الشيء الطارئ.
وإن قصد وجه الله والدنيا، يحبط العمل إلا إذا كان مثل ما ذكرنا في الحج فإنه لا بأس به؛ لأنه قصد وجه الله والله أباح له التجارة، وينقص من أجره بقدر اهتمامه بالتجارة.