[الذل والصغار والحرمان]
والثاني والعشرون: أن لكل عقل بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار، والحرمان والبلاء بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يعذب به في قلبه، كما قال الشاعر:
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عَذاباً
مآراب كانت في الشباب لأهلها
عذاباً: جمع عذب وهو ماء طيبٌ وما يستساغ من الشراب.
مآراب: أغراض نفسية وشهوات.
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عذاباً
فلو تأملت كل صاحب حال سيئة لرأيت بدايته الذهاب مع هواه، وإيثار الهوى على العقل، ومن كانت بدايته مخالفة هواه كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس.
قال أبو علي الدقاق: من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله في حال كهولته، ومن ملكته شهوته في حال الشباب أذله الله في حال الكهولة.
وابن جرير الطبري رحمه الله كان من أصحاب السمت الحسن، والعبادة والطاعة والدين، وكان يغلب ويقهر هواه، ولذلك بلغ عمره الثمانين بل أكثر من الثمانين، فكان مرة في مجلس علم مع طلابه والناس، وفجأة قام قومة شديدة كأنشط ما يكون، فاستغربوا أن ابن الثمانين يقوم هذه القومة، وكأن بعضهم قال: هذا الشيخ لا تليق به هذه القومة، قال: تلك جوارحنا حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر.
وقيل للمهلب بم نلت ما نلت؟ يعني وصلت إلى هذه الدرجة والمستوى، قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى.
هذا في الدنيا لكن في الآخرة جعل الله الجنة نهاية عظيمة لمن خالف هواه، والنار نهاية شنيعة لمن اتبع هواه.
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٣٧ - ٤١].
وهذه أقوال لبعض السلف في ذم الهوى لكي تعلم كيف كان موقفهم منه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] والقدع: هو الكف والمنع: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] أي: كفوها وامنعوها من الشهوات.
[فإنها طلاعة تنزع إلى شر غاية، وإن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيفٌ وبيء، وترك الخطيئة خيرٌ من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلا].
وقال عبد الله بن مسعود: [إذا رأيت الناس قد أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلوا الكذب، وأكثروا الحلف، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشا، وشيدوا الزنا، واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، فالنجاة ثم النجاة ثكلتك أمك!] انج بنفسك، لا يعاش بينهم.
قال أبو الدرداء: [إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعاً لعمله، فيومه يومٌ صالح] قال الزبير بن عبد المطلب:
وأجتنب الكبائر حيث كانت وأترك ما هويت لما خشيتُ
أي: فأنا مستعد أن أترك ما يدعوني إليه الهوى لأجل خشيتي لله عز وجل.
وعن علي رضي الله عنه قال: [إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل].
وقال رضي الله عنه: [إياكم وتحكيم الشهوات على العقول؛ فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها -يعني النفس- تنقاد بالتحذير والإرهاب فسوفها بالتأنيب والإرغاب فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما وانقادت].
وعن ابن عباس قال: [ليأتين على الناس زمانٌ يكون همة أحدهم فيه بطنه، ودينه هواه] مثل أهل البدع، دينهم أهواء، يهوى شيئاً فيتبعه ويجعله ديناً.
وعن أبي الدرداء كان يقول: [من كان الأجوفان همه خسر ميزانه يوم القيامة].
وقال رجل: العقل والهوى يصطرعان فأيهما غلب مال بصاحبه.
وقال ابن جريب:
وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا
والفعل علا، والفاعل عقله.
وقال عمر بن عبد العزيز: أفضل الجهاد جهاد الهوى.
وقال سفيان الثوري: أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعاً، ومن المحقرات التي يحقرها الناس تنتج الموبقات.
ويقولون: إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقالُ
قال ابن عبد البر: لو قال: إلى كل ما فيه عليك مقال، كان أبلغ وأحسن، قال ابن مفلح: وما قاله ابن عبد البر متوجه.
وقال بعض الحكماء: إنما يحتاج اللبيب ذو الرأي والتجربة إلى المشاورة ليتجرد له رأيه من هواه، يعني: لو قيل هذا حكيم كبير في السن، فلماذا يشاور؟! يقال: حتى يتجرد رأيه عن هواه.
وقال بعضهم: اعص النساء وهواك واصنع ما شئت.
قال ابن عبد البر: لو قال اعص الهوى لاكتفى، لا يوجد داعي لذكر النساء، قال: اعص الهوى، ثم إن الهوى قد يأتي من رجل وقد يأتي من امرأة، قال ابن مفلح: وصدق ابن عبد البر وكان أوجز.
لأن الهوى هو كل شيء، إذا عصيت الهوى خلصت، وقد امتدح بعضهم جماعة من الحكماء لتركهم الهوى.
وللشافعي:
إذا حار وهمك في معنيين وأعياك حيث الهوى والصواب
لم تستطع أن ترجح أيهما، ولم تعرف أيهما الهوى وأيهما الصواب
فدع ما هويت فإن الهوى يقود النفوس إلى ما يُعاب
كان يقال: إذا غلب عليك عقلك فهو لك، وإن غلب هواك فهو لعدوك.
قال عمر لـ معاوية: من أغضب الناس؟ قال: من كان رأيه رداً لهواه.
قال أعرابي: أشد جولة الرأي عند الهوى، وأشد فطام النفس عند الضبط.
وقال قائل: إن المرآة لا تريك خدوش وجهك في صداها -إذا صار فيها صدى- وكذلك نفسك لا تريك عيوبك في هواها.
قال الشعبي: [إنما سمي الهوى؛ لأنه يهوي بصاحبه]، وقال الأوزاعي: [قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات ذاك شيء قُرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئاً لا يستغفرون الله منه، قالوا: فبث فيهم الأهواء].
هل الأهواء هم أهل البدع، وأصحاب الطرق البدعية.
سواءً كانت بدعهم في القضاء والقدر كـ الجبرية والقدرية، أو كانت بدعهم في الأسماء والصفات كـ المعتزلة والأشاعرة والجهمية قبلهم، أو كانت بدعتهم في الإيمان كـ الخوارج والمعتزلة والمرجئة، وأصحاب هؤلاء الفرق هل كل واحد منهم كل يوم يتوب إلى الله من بدعته؟ هل يستغفر الله من بدعته؟ لا، لماذا؟ لأنه يرى نفسه على حق: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:١٠٣ - ١٠٤] ولذلك تعهد إبليس أن ينشر في البشر اتباع الأهواء حتى يرى الواحد منهم نفسه على الحق، فلماذا يستغفر؟ فيستمر؛ لكن لو أن إبليس اكتفى بإيقاع الناس في الزنا والخمر والربا فقط فإن الناس سيعرفون أنها حرام، وقد يوفق أناس للتوبة، لكن إذا أوقعهم في البدع والأهواء فكل واحد يرى نفسه على صواب فلا يستغفر، إذا نصحته يقول: استغفر لنفسك أنت! وعن جعفر بن الجمرخان قال: بلغني عن أبي منبه أنه قال: إن من أعوان الخلائق على الدين الزهاد في الدنيا، وأوشكها رداً اتباع الهوى، ومن اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة في الدنيا حب المال والشرف وإن من حب المال والشرف، استحلال الحرام وغضب الله.
وقال أبو سهل: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سئل أبي ما الفتوة؟ فقال: ترك ما تهوى لما تخشى لأجل خشية الله، والآخرة تترك الهوى.
وقال أبو حازم: قاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك.
وقال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامة ألا ترى لك عن هواك نزوعُ
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوعُ
إذا غلبت أمواج الهوى يصبح العالم مفتوناً بالدنيا، يبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل عاشقٌ له، مستمد لفتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكل قد شغله الشيطان بخوف الفقر، وقد كان من عادة السلف -هذه سنة مفقودة- المراسلة فيما بينهم، كل واحد يوصي الثاني كل فترة يرسل رسالة لأخيه يوصيه، كل واحد يوصي الآخر بالحق والصبر، وهذه من الممكن أن تحصل اليوم في بعض الناس الذين يرسلون رسائل في الجوالات، يتفقد فيها أخاه برسالة قصيرة ونصيحة موجزة.
فهذا إسحاق بن عبد المرسل الدمشقي يرسل إلى أحمد بن عاصم الأنطاكي في أنطاكيا وذاك في دمشق.
فكان في كتابه: إذا أصبحنا في جهل حيرة تضطرب علينا أمواج الهوى، فالعالم منا مفتون بالدنيا ليبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل منا عاشقٌ لها مستمدٌ من فتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكلٌ قد شغل الشيطان قلبه بخوف الفقر، فأعاذنا الله و