[من أخفى عمله أظهره الله ورفع قدره]
المرائي يرائي، والمسمع يسمع الناس، ويحدث بعمله ليظهر ويعلو شأنه، والله يجعل نوره منطفئاً وأمره زائلاً، وإذا أخفى العبد العمل نشر الله ذكره، ورفع شأنه، وأظهر أمره، وحبب الناس فيه، عن أبي حمزة الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: إن الصدقة في الليل تطفئ غضب الرب.
كان ناس في المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، يأتون إلى بيوتهم فيجدون عندها الطعام، يخرج أحدهم من الباب يجد عنده صدقة لا يدرون من وضعها، فلما مات علي بن الحسين رحمه الله فقدوا ذلك، ولم يعودوا يجدون الطعام الذي كانوا يجدونه عند أبواب بيوتهم؛ فعلموا من الذي كان يأتيهم بالليل.
وعن عمر بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، فمن ثقلها على ظهره أثرت فيه، فصارت أثراً مستمراً، وجدوه في بدنه عند تغسيله رحمه الله تعالى.
وأما الصلاة والدعاء فحدث عنهم ولا حرج في أخبارهم رحمهم الله تعالى، قال سلام بن أبي مطيع: كان أيوب يقوم الليل يخفي ذلك، فإذا كان قبيل الصبح رفع صوته كأنه قام في تلك الساعة.
لم يكن يشعرهم أنه كان قد قام قبلها بوقت طويل.
وكان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة -أي: الصبح- أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائماً على أطرافه؛ ليخفي عنهم العمل.
وكان مسروق رحمه الله يرخي الستر بينه وبين أهله ثم يقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم.
وكان حسان بن أبي سنان يفتح باب الحانوت فيضع الدواة ويفرش الحساب ويرخي ستره داخل الدكان ثم يصلي، فإذا أحس بإنسان قد جاء -زبون قادم- جاء يقبل على الحساب يريه أنه كان يحسب ميزانية المحل وما دخل وما خرج رحمه الله تعالى.
وعن الأعمش قال: رأيت إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطى المصحف وقال: لا يرى هذا أنني أقرأ فيه كل ساعة.
كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف ليقرأه فيغطيه بثوبه، وكان بعض السلف إذا حضرته الرقة في المجلس وأثر فيه الوعظ وأوشك على البكاء لف المنديل على أنفه وامتخط وقال: ما أشد الزكام! قال محمد بن واسع رحمه الله: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بلَّ ما تحت خده من الدموع وزوجته لا تشعر به! ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي بجانبه! وكان محمد بن سيرين رحمه الله يسمع بكاؤه بالليل وضحكه بالنهار، وكانت البيوت متجاورة متلاصقة، قال الإمام البصري رحمه الله: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم الآن يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره وهذا الفرق، بعض الناس يقولون: تصدقنا وأنفقنا واعتمرنا وحججنا، وفعلنا وفعلنا لمرة واحدة، والصالحون يفعلونه سنين ولا يحدثون به، بل لا يدرى عنهم، ولكن الله يكشفه ويرفع قدر صاحبه؛ ولذلك بلغ السلف والصالحون ما بلغوا، وإن كانت أعمالهم مستورة لكن الله يحببهم إلى العباد، ويغرس في قلوب العباد محبتهم هذه من نتيجة طاعة الله تعالى.
أقام عمر بن قيس -رحمه الله- عشرين سنة يصوم ويكثر الصيام لا يعلم به أهله، يأخذ إفطاره في الصباح وهو ذاهب إلى دكانه، يغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه على المساكين، ويصوم وأهله لا يدرون، ويرجع إليهم قبيل المغرب حيث كان ينتهي وقت العمل في ذلك المجتمع، ثم يأكل بعد ذلك كأنه يتغدى غداءه العادي! أفعال الخير كانت عندهم -رحمهم الله تعالى- حتى مع العجائز، هذا طلحة رضي الله عنه رأى عمر في سواد الليل يدخل بيتاً ويخرج منه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت لينظر إلى أين دخل عمر بالليل وماذا كان يفعل، فإذا بعجوز عمياء مقعدة فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك بالليل؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى.
قال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة! أعثرات عمر تتبع؟! هكذا كانوا رحمهم الله تعالى، هكذا كانوا في إخفائهم لأعمالهم، فإذا أردت يا عبد الله أن يصلح قلبك فاعمل وأخف العمل، فإن في ذلك إصلاحاً عظيماً للقلب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يصلح أعمالنا، وأن يصلح سرائرنا وأن يصلح ظواهرنا، وأن يتوب علينا ويغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.