[عادة السلف وأهل العلم في المدح]
أيها الإخوة: بعض الناس قد يقول: فلان ورع، فلان تقي، فلان زاهد، هذا المدح ليس بصحيح، هذا بخلاف ما إذا قال: رأيت فلاناً يصلي، رأيت فلاناً يحج، رأيت فلاناً يزكي.
لو طلب منك شهادة في فلان في مسألة زواج مثلاً، لا تقول: فلان ورع وتقي وعابد وزاهد وكامل الإيمان، ولكن تقول مثلاً: أنا رأيته يصلي، رأيته يدعو إلى الله على بصيرة، رأيت فيه علماً، فلا تطلق الألفاظ، تقول هذا الكلام مما يسهل الاطلاع عليه لأنه يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل الصلاة، يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل العلم وهكذا.
وكذلك أيها الإخوة قال سفيان بن عيينة: إذا مدح الإنسان في وجهه ماذا يقول؟ (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون) أخرجه البيهقي في الشعب.
وتستنكر هذا المدح وتنكر على هذا الرجل هذا الكيل المتدفق في المدح لأنه مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلماؤنا من السلف رحمة الله تعالى عليهم كانوا لا يكيلون المدح جزافاً ولا يطلقونه إطلاقاً؛ بل إنك إذا رجعت إلى كتب الجرح والتعديل التي فيها تقييم لرجال الحديث؛ وجدت العلماء من السلف في هذا الجانب يدققون جداً، لا يقولون: فلان إمام عدل ثقة ثبت، ورع زاهد تقي عابد إلا إذا كان من أهل هذه المنزلة فعلاً، أما إذا كان فيه شيء آخر فإنهم يبينونه، فلذلك مثلاً يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة إسماعيل بن سميع الكوفي: ثقة فيه بدعة، كونه ثقة ما منع الذهبي أن يقول: فيه بدعة، وكونه فيه بدعة ما منع الذهبي أن يقول عنه: ثقة {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:٨٥] قال عنه: ثقة فيه بدعة.
وقال في ترجمة أبو سليمان داود المدني رحمه الله: ثقة مشهور له غرائب تستنكر، مع أنه ثقة مشهور لكن عنده غرائب تستنكر منه، ما منع الذهبي ثقة الرجل وشهرته أن يضيف هذه الإضافة: له غرائب تستنكر، لا بد من إنزال الناس منازلهم، وعدم إطلاق ألفاظ الثناء عليهم.
مثال أخير: قال الذهبي رحمه الله في ترجمة طلق بن حبيب: من صلحاء التابعين إلا أنه يرى الإرجاء، وقال ابن حبان في نفس الرجل: كان عابداً مرجئاً، الإرجاء بدعة في الدين، وهو مذهب باطل إلا أنهم لما ترجموا لهذا الرجل قالوا: من صلحاء التابعين، هو صالح نعم، لكن عنده في فكره انحراف منهجي في قضية الإرجاء.
ومن أعظم المصائب في قضية المدح: مدح المنافق والفاجر أو الكافر بقول سيد، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه أحمد وأبو داود عن بريدة وهو في صحيح الجامع: (لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم).
قال العلماء في شرح الحديث: إذا قلت للمنافق يا سيدنا أو يا سيدي، وهذا الرجل سيد فعلاً عنده عبيد وعنده أموال وعنده جاه ومنصب، فإن قلت له: يا سيدي وهو منافق فعلاً فقد أسخطت ربك، فكيف إذا كان هذا المنافق ليس بسيد أصلاً، بل هو من عامة الناس، وهو منافق، وأنت تقول له: يا سيد أو يا سيدي؟! ولذلك قال النووي رحمه الله معنوناً على هذا الحديث: باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه، قال الشارح في دليل الفالحين: ونحوهما -يعني: الفاسق والمبتدع- من الظلمة وأعوانهم، وبعض الناس اليوم عندما يخاطب الكفار يقول له بلهجته أو بلغته الأجنبية: نعم يا سيد، كما يقول بعض الطلبة للمدرس الكافر يقول له: يا سيد! هذا أيها الإخوة داخل في الحديث حتى ولو قالها بلغة الكافر، وهذه اللفظة شائعة على ألسنة كثير ممن يتعاملون مع الكفرة، لماذا هذا النهي وهذا التعظيم وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فقد أسخطتم ربكم) قال الشارح رحمه الله: لأن فيه تعظيماً لمن أهانه الله، الله عز وجل يهين منافقاً أو مبتدعاً أو فاجراً ويتوعده في كتابه بالنار والعذاب والإهانة في الدنيا والآخرة، وأنت أيها المسلم تأتي وترفع هذا الرجل إلى مرتبة السيادة، إنه لأمر عجيب فعلاً! وهذا الشيء مقيد بمن لا يكون على نفسه ضرر في أهله أو ماله فلا كراهة حينئذٍ، وقوله: (فقد أسخطتم ربكم) أي: عظمتم من خرج عن عبودية الله واتخذ له ضداً ونداً، وكذلك العصاة فإنهم اشتركوا مع المنافق في الخروج من حزب الرحمن والانتظام في إخوان الشيطان.
هذا أيها الإخوة لا يجوز بحال، كثير من المسلمين اليوم يعظمون الفجار والفسقة والمبتدعين والمنافقين ويكيلون لهم ألفاظ الثناء والمدح بغير حساب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه الآفات، وإن يرزقنا وإياكم العدل في القول والعمل، وألا نبخس الناس أشياءهم، وصلى الله على نبينا محمد.
أستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.