الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن بعض الناس يتصور أن الرجوع إلى الحق ضعف، وأن العودة عن قوله أو فعله الخاطئ اهتزاز في شخصيته، ويأتي الشيطان لينفخ فيه فيقول له: إذا تراجعت فأنت ضعيف شخصية، بينما الحقيقة بخلاف ذلك تماماً، فإن الإنسان ولو توهم أن تراجعه ضعف أمام الآخرين، فإنه في الحقيقة رفعة في نظرهم، ويكبر في أعينهم، ولكن المسألة تحتاج إلى شيء من المصابرة والمجاهدة، لقد تلكأ علي رضي الله عنه عن بيعة الصديق لأنه كان يعتقد في زمن أن له في ذلك حقاً؛ كما روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، ثم لما تبين الحق لـ علي رضي الله عنه رجع، وقال لـ أبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر على المنبر، رقى على المنبر، فتشهد وذكر شأن علي، أي: فضله ومنزلته، وعذره بالعذر الذي اعتذر إليه، ثم استغفر له، وتشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعظَّم حق أبي بكر، وأنه لم يحمله على الذي صنعه -أي من التأخر عن بيعته- نفاسة على أبي بكر -ليس حقداً ولا حسداً- ولا تقديماً لنفسه على نفس الصديق، ولا إنكاراً للذي فضله الله به، قال:[ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً ونحن آل محمد صلى الله عليه وسلم] ثم عرف أن الحق فيما أجمع عليه الصحابة من بيعة الصديق، فبايع علناً أمام الناس، قال الراوي: فسر المسلمون بذلك وقالوا: أصبت، فكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع المعروف، قال ابن حجر رحمه الله: أي كان ودهم له قريباً، إذاً ازدادت المودة لـ علي رضي الله عنه لما راجع، لم تهتز شخصيته في أعينهم، لم يصبح ضعيفاً في أعينهم، وإنما ازدادت مودتهم له لما رجع إلى الحق.
وقال عبد الغني الأزدي: لما رددت على أبي عبد الله الحاكم الأوهام التي في المدخل إلى الصحيح في كتابه، بعث إلي يشكرني ويدعو لي، فعلمت أنه رجل عاقل، فإذاً الراجع إلى الحق يزداد في أعين الناس، وإن أوهمه إبليس في البداية أنها ضعف شخصية وأنها إهانة.
والذي لا يراجع الحق كبراً فإن الله يحرمه من معرفة الحق، كما قال الله عز وجل:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف:١٤٦] قال ابن جريج رحمه الله: أي سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها، قال المفسرون: سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم، وهكذا يكون مصير الذي يتكبر على الحق أن يحرم عن معرفته وتبينه، وهذه لا شك كارثة كبيرة ومصيبة عظيمة فادحة تنزل بالإنسان، غضباً من الله، وعقوبة له على تكبره عن الحق، أنه لا يعود ليميزه ولا يعرفه ولا يهتدي إليه.