[ثناء العلماء على أبي عبيد]
أما ثناء العلماء عليه فكثير، ويكفينا شهادة الإمام أحمد رحمه الله، فإن محمد بن أبي بشر قال: أتيتُ أحمد بن حنبل في مسألة، فقال: ائتِ أبا عبيد فإن له بياناً لا تسمعه من غيره، فأتيت أبا عبيد فسألته فشفاني جوابُه، وأخبرته بقول أحمد فقال: يا بن أخي! ذاك -يعني الإمام أحمد - رجلٌ من عمال الله، نشر الله رداء عمله في الدنيا، وذخر له عنده الزلفى.
وتقدم أن حمدان بن سهل قال لـ يحيى بن معين وسأله عن الكتابة عن أبي عبيد: نكتب عن أبي عبيد أم لا؟ ونسمع منه؟ فتبسم، وقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد! أبو عبيد يُسأل عن الناس، لقد كنت عند الأصمعي يوماً إذ أقبل أبو عبيد فشق إليه بصرُه -بصرُ الأصمعي شقَّ إلى أبي عبيد - حتى اقترب منه، فقال: أترون هذا المقبل؟ قالوا: نعم، قال: لن يضيع الناس ما حيي هذا المقبل.
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أبو عبيد أوسعنا علماً، وأكثرنا أدباً، وأجمعنا علماً، إنا نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيد لا يحتاج إلينا.
وقال أيضاً: الأئمة في زماننا: الشافعي، والحُمَيْدي، وأبو عبيد.
وقال إبراهيم بن أبي طالب: سألتُ أبا قدامة عبد الله بن سعيد اليشكري -أحد أئمة الحديث، مجمعٌ على ثقته- عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، فقال: أما أفهمهم فـ الشافعي، إلا أنه قليل الحديث، وأما أورعهم فـ أحمد بن حنبل، وأما أحفظهم فـ إسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فـ أبو عبيد.
ولما جاء نعي أبي عبيد لـ عبد الله بن طاهر، وكان قد قال: كان للناس أربعة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلَّام في زمانه، لما جاءه نعي أبي عبيد قال:
يا طالب العلم قد مات ابن سلَّام وكان فارس علمٍ غير محجامِ
مات الذي كان فيكم رُبع أربعةٍ لَمْ يلقَ مثله أستاذ أحكامِ
خير البرية عبد الله أولهم وعامرٌ ولنعم الثنا يا عامِ
هما اللذان أنافا فوق غيرهما والقاسمان: ابن مَعْنٍ وابن سلَّام
فازا بقِدحٍ متينٍ لا كفاء له وخلفاكم صفوفاً فوق أقدامِ
وقال الهلال بن علاء الرِّقِّي: مَنَّ الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بـ الشافعي: تفقه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبـ أحمد بن حنبل: ثبت في المحنة ولولا ذلك لكفر الناس.
وبـ يحيى بن معين: نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبـ أبي عبيد القاسم بن سلَّام: فسر الغريب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لولا ذلك لاقتحم الناس في الخطأ، ولم يفهموا الأحاديث على وجهها، ولا فهموا معناها.
وقال إبراهيم الحربي -رحمه الله- وهو من تلاميذ أبي عبيد: أدركتُ ثلاثةً لن يُرى مثلهم أبداً، تعجز النساء أن يلدن مثلهم: رأيت أبا عبيد القاسم بن سلَّام ما مثَّلْتُه إلا بجبلٍ نُفِخ فيه روح.
وقال أحمد بن يحيى الملقب بـ ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً، مع أن القوم أصحاب عجائب كثيرة، ولعلها لتعويض نقص إيمان القوم لأجل أن تحملهم على الإيمان، لأنهم كان عندهم ضعف، قال: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً.
وقال الأزهري: كان أبو عبيد ديِّناً فاضلاً، عالماً أديباً فقيهاً صاحب سنة.
وعَدَّ ابن تيمية -رحمه الله- أبا عبيد من الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ، كما ذكره فيمن يعرف كل أحدٍ زكاءهم وذكاءهم.
ما هو الفرق بين الذكاء والزكاء إذا قيل: كان ذكياً زكياً؟ الزكاء: في النفس، فالزكي المزكَّى أي: العدل، الثقة، الطاهر، والأمين، التقي.
والذكي يعني: في ذهنه، وعقله؛ لكنه قد يكون شريراً، ولذلك يقال عن بعض الناس: أوتي ذكاءً ولم يؤت زكاءً، وهذا ذكاؤه يكون وبالاً عليه، لأنه يستخدمه في الشر، فإذا أوتي المرء ذكاءً ولم يؤتَ زكاءً فهذه مصيبة، وعدد من الملاحدة وأصحاب المذاهب الضالة أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً.
وقال ابن القيم -رحمه الله- عن أبي عبيد: وكان من أعيان المفتين -يعني: بـ بغداد، وكان جبلاً نُفِخ فيه الروح علماً وجلالة ونُبلاً وأدباً.