اشتهر ابن جرير الطبري رحمه الله بأنه إمام المفسرين؛ لأنه ألف كتابه المشهور في التفسير، وتفسير الطبري من أنواع التفسير بالمأثور، وهو أسلم أنواع التفسير وأقربه إلى الحق؛ لأنه نقول عن السلف؛ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين، فبدأ الطبري رحمه الله بكتابة هذا التفسير وقال في المقدمة: فإن من قسيم ما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظه ما حفظ جل ذكره وتقدست أسماؤه عليهم من وحيه وتنزيله.
حفظه الله عز وجل وجعله دلالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة، وحجة بالغة إلى أن قال: فجعله لهم في دجا الظلام نوراً ساطعة، وفي سدف الشبه شهاباً لامعاً، وفي مضلة المسالك دليلاً هادياً، وإلى سبيل النجاة والحق حاديا، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:١٦].
ولقد بَيَّنَ رحمه الله أهمية مكانة القرآن في المقدمة وأهمية التفسير.
يقول ياقوت الحموي في معجم الأدباء: وكتاب التفسير -يعني للطبري - كتاب ابتدأه بخطبة ورسالة التفسير، تدل على ما خص الله به القرآن العزيز من البلاغة والإعجاز والفصاحة التي نافى بها سائر الكلام، ثم ذكر من مقدمات الكلام في التفسير، وفي وجوه تأويل القرآن، وما يعلم تأويله، وما ورد في جواز تفسيره، وما حضر من ذلك، والكلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم:(أنزل القرآن على سبعة أحرف) وبأي الألسنة نزل، والرد على من قال: إن فيه أشياء من غير الكلام العربي، وتفسير أسماء القرآن والسور وغير ذلك مما قدمه، ثم تلاه بتأويل القرآن حرفاً حرفاً - الحموي يذكر منهج الطبري في التفسير- فذكر أقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من تابع التابعين، وكلام أهل الإعراب من الكوفيين والبصريين وجملاً من القراءات، واختلاف القراءة فيما فيه من المصادر واللغات والجمع والتثنية، والكلام في ناسخه ومنسوخه، وأحكام القرآن -فقه الحلال والحرام- والخلاف فيه، والرد عليهم من كلام أهل النظر فيما تكلم فيه بعض أهل البدع، والرد على مذاهب أهل الإثبات ومبتغي السنن إلى آخر القرآن انظر إلى هذا التفسير فقد حوى كل هذه الأشياء الآثار والقراءات ووجوه الإعراب والموازنة بين الآراء، والترجيح الذي عند ابن جرير، الناسخ والمنسوخ، والأحكام وما تتضمنه من الأحكام الفقهية، يسوق الخلافات ويرد على أهل البدع بمذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك فكتاب ابن جرير في التفسير هو أساس كتب التفسير كلها، فكل من جاء بعد ابن جرير فهو عالة عليه في التفسير، ولا يوجد في الإسلام تفسير مثله ألبتة.
اتجهت همة المستشرقين إلى طبع عدد من كتب الطبري رحمه الله وإخراجها، إلا أن هذا التفسير والحمد لله تعالى قد نشره رجل مسلم، فتولى آل الحلبي أصحاب المطبعة بـ مصر مصطفى بن محمد البابي الحلبي طباعة هذا الكتاب، يقول كلاماً مؤثراً ومهماً في مقدمة الطبعة: إني طالما رأيت علماء الغرب المسيحيين مولعين بالبحث عن الكتب الإسلامية القديمة العهد، ومجتهدين في الحصول على ما فيها من العلوم، ويسمى المشتغل منهم بذلك مستشرقاً -أي: دأبه البحث عن الكتب الشرقية- ومن أهم ما كانوا يجدون في البحث عنه تفسير القرآن للإمام محمد بن جرير الطبري، حتى إن الواحد منهم إذا سمع بوجود قطعة من التفسير المذكور في بعض دور الكتب، يستخدم كل وسيلة للاطلاع عليها، وهم كفرة، لكن روح البحث العلمي يجعل الواحد منهم ينفق أموالاً طائلة؛ ليحصل على قطعة من تفسير الطبري، ونسخ ما يهمه منها، ولا يبالي بصرف الوقت والمال في سبيل ذلك، وكنت -هذا موقف مسلم متحرق- يقول: وكنت أذوب خجلاً وأسفاً عندما أرى بعض الكتب العربية سبقنا أهل أوروبا إلى طبعها ونشرها، ولم يصل إلينا إلا من أيديهم شيء مخجل يؤسف له، كتبنا كتب أهل السنة وكتب علمائنا نحن المسلمين لا تصل إلينا إلا من طريق الكفار هم الذين أخذوا المخطوطات واعتنوا بها وجعلوا لها دوراً، وجعلوا لها مكتبات، وجعلوا لها مواداً حافظة وقائمين عليها، وهم الذين نشروا وحققوا كثيراً منها.
قال: وكنت أذوب خجلاً وأسفاً عندما أرى بعض الكتب العربية سبقنا أهل أوروبا إلى طبعها ونشرها، ولم يصل إلينا إلا من أيديهم، بعد فترة من الزمن كدسوها وبعد ذلك أخرجوها لنا -حجبوها عنا فترة طويلة، ومنها ما نشر إلا مؤخراً في هولندا وألمانيا وغيرها من البلدان- مع أننا أحق بالمسابقة في نشر كتبنا، ولم يجئ هذا إلا من تساهل أفراد الأمة الإسلامية في ما هم أحق به، ولما كنت ممن وفقني الله لنشر بعض الكتب محبة في الخير وتسهيل السبيل إليه، بادرت بطبع كتاب تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري الذي مضى على وفاة مؤلفه ألف وإحدى عشرة سنة محبة في نشر العلم، وخوفاً من أن يسبقنا الأوروبيون لطبعه وإظهاره للعالم، فالحمد الله الذي جعل ظهور تفسير ابن جرير الطبري على أيدي المسلمين وليس على أيدي المستشرقين.
الطبري رحمه الله تعالى له منهج خاص في تفسيره حيث يذكر الآية أو الآيات من القرآن ويذكر القول في تأويل قول الله تعالى، ويذكر الآية والتأويل -يعني: التفسير- ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أثرت عن الصحابة والتابعين من سلف الأمة في تفسيرها، ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة للثقة والقوة في الآية كلها أو في بعض أجزائها، بناءً على خلاف في القراءة، أو اختلاف في التأويل -يعني: التفسير- ثم يعقب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات، واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى، فينهج نفس النهج عارضاً ثم ناقداً ثم مرجحاً، فطريقة الطبري رحمه الله ما كانت سرداً، وإنما كان فيها تنقيح وتحقيق، وهو من كتب التفسير بالمأثور الملتزم باللغة العربية، مع أن الرجل قيل: إن أصله فارسي، فمن العجائب أن يخرج علينا بهذا الكتاب وهذا المشرب الصافي الذي لا يختلف عن أي عربي فصيح.