فالذي يتحمل مكروهات الدنيا لأجل اللذة الأخروية، ويصبر عن اللذات المؤقتة الناقصة، لأجل تحصيل اللذات الكاملة المتجددة، هذا هو المؤمن، ومع ذلك من رحمة الله أنه ما حرم علينا كل اللذات في الدنيا، ولا قال: يا أيها العباد إذا أردتم لذة الجنة اتركوا كل لذات الدنيا، ولا تتلذذوا بطعام ولا شراب ولا نكاح ولا ملابس أبداً، احرم نفسك من لذات الدنيا تأخذ لذات الجنة، ما قال ذلك، وإنما أباح لنا لذات في الدنيا:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}[النساء:٣] وقال صلى الله عليه وسلم: (حبب إليّ من دنياكم: الطيب والنساء) أفلا ترى أن من رحمة الله بنا أنه أعطانا لذات مباحة في الدنيا وحرم علينا لذات لننال بسبب الامتناع عنها ابتغاء وجهه لذات أخرى.
وقد غلط المتفلسفة من الصابئين والمشركين ومن حذا حذوهم كـ الرازي وغيره في أمر هذه اللذات في الدنيا والآخرة حتى جرهم ذلك الغلط إلى الدين الفاسد في الدنيا بالاعتقادات الفاسدة والزهادات الفاسدة، فصاروا تاركين لما ينفعهم من لذات الدنيا معرضين عما خُلقوا له، فالآن بعض الصوفية الذين يتبعون رهابنة النصارى، يقولون بالحرمان من كل لذة، ويتعبدون بترك كل لذة، وهذه بدعة.
ولما أراد بعض الصحابة أن يمتنعوا عن لذة النساء والنوم والطعام واللحم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خطأهم وعنف على ذلك بعبارات شديدة وقال:(من رغب عن سنتي فليس مني).
أي: واحد قال: أنا لا أنام الليل، وآخر قال: أنا لا أفطر في النهار، وآخر قال: لا آكل اللحم، وآخر قال: لا أنكح النساء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قاوم ذلك كله وقال:(من رغب عن سنتي فليس مني).
فإذن الحقيقة أننا نزداد محبة لله عندما نرى أنه أباح لنا لذات كثيرة في الدنيا، وأعطانا على الامتناع عن بعض اللذات التي هي في الحقيقة مصائب وآلام كالزنا والخمر وغيره، أعطانا عوضاً عن ذلك في الآخرة لذات كثيرة، ولذلك لو قال واحد أنا لو امتنعت عن الأغاني الآن في الدنيا، لم أعد أسمع لا الموسيقى ولا الأغاني فماذا لي في الآخرة؟ نقول: لك في الآخرة كما قال الله عز وجل: {يُحْبَرُونَ}[الروم:١٥] وغناء الحور العين، فيحبرون: هو سماع الغناء في الجنة وغناء الحور العين، فهذا أعظم من كل غناء في الدنيا ولا يقارن به على الإطلاق.
فلا يوجد شيء يتركه العبد في الدنيا لله ثم لا يأخذ مقابلاً في الآخرة.