[خطر احتقار التائبين]
ثم إن هناك أمراً مهماً -أيها الإخوة- يغفل عنه كثيرٌ ممن ينتسبون إلى الصلاح والاستقامة، فيقول ابن القيم رحمه الله في حال هؤلاء الناس: وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات، يقعون في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها.
بعض الناس لا يشرب خمراً ولا يزني ولا يسرق ولا يخون ولا يكذب، ولكنه واقع في أمر لا يقل نكارة عن هذه الأمور من الكبائر التي ذكرناها الآن.
ما هو هذا الأمر الذي قد يقع فيه هذا الرجل؟ الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم، ومنته على الخلق بلسان الحال.
أي: أن بعض الناس لا يرتكبون الكبائر المعروفة التي ذكرناها، ولكنهم يحتقرون التائبين الذين سبق لهم الوقوع في المعصية، يحتقرهم أولاً لأنهم قد وقعوا فيها، فيحتقرهم مع أنهم تابوا منها، وهذا الاحتقار خطير أيها الإخوة، لأنك تحتقر من تاب، رجل وقع في الذنب ثم تاب إلى الله، لماذا تحتقره؟ إن احتقارك له يعني أولاً: احتقارك لتوبته، يعني احتقارك لهذه العبادة العظيمة التي قام بها هذا التائب.
ثانياً: احتقارهم لأنه يعتقد أنه أرفع منهم شأناً، وأصلح منهم حالاً، وأعلى منهم ذاتاً، وأقرب منهم إلى الله، وأنه صاحب عبادة وصيام وصلاة وتهجد وعلم ودعوة، فهو يستعلي على أولئك الناس لا استعلاء إيمانياً صحيحاً، وإنما استعلاء تجبر وتكبر واحتقار، وهذا لا يقل خطورة عن تلك الكبائر التي وقع فيها أولئك الناس.
أيها الإخوة: أن يرى الإنسان نفسه أعلى من الآخرين، وأنهم حقيرون بجانبه، وأنه ليس لهم شأن، وأنه هو صاحب الصلاة والصيام والزكاة والدعوة والعلم، وأنه أحسن منهم حالاً؛ شعور يؤدي إلى التكبر عليهم، واحتقارهم في توبتهم.
هذا اللسان -أيها الإخوة- من أنواع ألسنة الحال خطير جداً، الرسول صلى الله عليه وسلم مع علمه ودعوته وجهاده وطاعته وعبادته وخشوعه وذله، كان إلى الله ذليلاً منكسراً، يحقر من شأن نفسه، ويرتمي على عتبة الله عز وجل، يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالذين يحتقرون الناس ويتكبرون عليهم لاعتقادهم بأنهم هم الذين يدخلون الجنة والآخرون إلى النار، هذه النفسية من أسوأ النفسيات.
يقول ابن القيم رحمه الله: وقد يكون من رحمة الله تعالى بهذه النوعية من البشر، أن يبتليهم بكبيرة يقعون فيها، يقع يوماً من الأيام في الزنا أو السرقة أو شرب الخمر.
ولماذا يكون هذا من رحمة الله بهذه النوعية المستعلية استعلاءً حقيراً خاطئاً؟ يكون وجه الرحمة -أيها الإخوة- أن يجعل الله نفوس هؤلاء تنكسر إليه بعد تكبرها وصلفها وتجبرها واحتقارها للناس.
الواحد بهذه النفسية -نفسية المتكبر المحتقر للآخرين التائبين من الذنوب- إذا ابتلاه الله في يوم من الأيام بفاحشة من الفواحش، فقد يكون في هذا خير له؛ لأن نفسه ستنكسر، ويعلم أنه ليس بهذا المستوى الذي يظن نفسه فيه.
وأنا لا أدعو بهذا الكلام أصحاب الصراط المستقيم الذين تنزهوا عن الفواحش، أن يقعوا فيها مرة واحدة، لا.
ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود نزع التكبر والاحتقار لعباد الله من النفس، وتطمينها والدعوة إلى الله بالحسنى.
يا أخي الداعية: يجب أن يشعر الناس وأنت تدعوهم أنك لا تحتقرهم، أنك تنصحهم نصيحة أخ مشفق على حالهم، تطامن إليهم، تتودد إليهم، وليس أن تستعلي عليهم استعلاء الاستكبار والاحتقار.