[نص حديث بركة المرأة التي أسلمت]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: في كتاب التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء.
في هذه القصة من الفوائد العديدة والأحكام الكثيرة ما تقر به عين المؤمن، وما ينتفع به طالب العلم، وما يكون فيه فائدة في حياة الإنسان المسلم، وفيها بيانُ بعض ما يحتاج إليه الناس في أمور العبادات.
وهذه القصة رواها أبو رجاء، عن عمران رضي الله عنه قال: (كنا في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا -أي: سرنا في الليل- حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعةً -أي: نمنا نومة- ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس، وكان أول من استيقظ فلان وفي رواية: أبو بكر، ثم فلانٌ، ثم فلانٌ، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف -الراوي عن أبي رجاء -ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه -لأن نوم الأنبياء وحي، فخاف الصحابة أن يوقظوه فينقطع الوحي، لأنه ربما يكون يرى وحياً- لأنا لا ندري ماذا يحدث له في نومه، فقعد أبو بكر عند رأسه، فجعل يكبر ويرفع صوته فلما استيقظ عمر، ورأى ما أصاب الناس -أي: أنه قد فاتت صلاة الفجر على الجيش بأكمله- وكان رجلاً جليداً -والجلادة هي القوة والصلابة- فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبرُ ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: لا ضير -أو: لا يضير- ارتحلوا.
فارتحل، فسار غير بعيدٍ، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة -الأذان- فصلى بالناس -صلاة الفجر بعد طلوع الشمس- فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزلٍ لم يصلِّ مع القوم -قيل: هو خلاد بن رافع رضي الله عنه- قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟! قال: أصابتني جنابةٌ ولا ماء.
قال: عليك بالصعيد -أي: الزم الصعيد وتيمم به، والصعيد هو التراب، أو سطح الأرض مطلقاً- فإنه يكفيك.
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوبٍ بين يديه فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاءٍ نسيه عوفٌ -وهو الرواي عن أبي رجاء - ودعا علياً فقال: اذهبا فابتغيا الماء.
فانطلقا، فتلقيا امرأةً سادلةً رجليها بين مزادتين أو سطيحتين من ماءٍ على بعيرٍ لها -ذهبا يبحثان عن الماء فوجدا امرأةً راكبة قد أسدلت رجليها وبينهما مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة، سميت مزادة لأنه يزاد فيها جلدٌ آخر من غيرها، وتسمى أيضاً سطيحة، وهي القربة الكبيرة.
فقالا لها: أين الماء؟ -أين موضع الماء من عينٍ أو بئرٍ؟ - قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة -تقول المرأة: تركتُ الماء منذُ أمس، وهو اليوم الذي قبل يومك تسميه العرب أمس، في مثل هذه الساعة، والمعنى أن الماء يبعد مسافة أربع وعشرين ساعة، وفي رواية: يومٌ وليلة، ونفرنا خلوفاً.
أي: رجالنا متخلفون لطلب الماء، وذهبوا وخلفوا نساءهم، وحدهن في الحي، تخبر عن حال قومها، أنهم نفروا في طلب الماء وتركوا أهلهم، وقومها من المشركين- قالا لها: انطلقي إذاً- مادام أنه لا يوجد ماء، وليس الماء إلا معها، فانطلقي إذاً- قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ والصابئ: هو الذي خرج من دينٍ إلى آخر، وكانت المرأة مشركة، فقالت لما قالوا لها: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الذي يقال له الصابئ؟ - قالا: هو الذي تعنين -وهذه عبارة فيها حكمة بالغة، ما قالوا: نعم، ولكن قالوا: هو الذي تعنين- فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث، وفي رواية أنها قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها شيئاً حتى استقبلنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث -قال: فاستنزلوها عن بعيرها- فحدثته بمثل الذي حدثتنا من قضية الماء ورجال الحي، غير أنها حدثته أنها مؤتمةٌ -أي: ذات أيتام، هذا التفصيل الجديد- فمسح في العزلاوين -أي: العجلاوان: مثنى عزلى، والعزلى: فم المزادة الأسفل- ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناءٍ ففرَّغ فيه من أفواهِ المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواههما -أي: ربطَ أفواههما- وأطلق العزالي -جمع عزلاء، وهي فم المزادة الأسفل الذي يخرج منه الماء بكثرة، فهو فرغ من أفواه المزادتين في إناء، ثم أغلق الأفواه- ونودي في الناس: اسقوا واستقوا -الذي يريد ماء يأخذ من هذا الإناء- فسقى من شاء واستقى من شاء- وفي رواية: فشربنا عطاشاً أربعين رجلاً حتى روينا، فملأنا كل قربةٍ معنا وإداوة، غير أنه لم نسقِ بعيراً -وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابه إناءً من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك، وهي قائمةٌ تنظر إلى ما يفعل بمائها- والمرأة قائمة مذهولة تنظر إلى ما يفعل بمائها- وايم الله -يحلف الراوي- لقد أقلع عنها -أي: كف عنها وتركت- وإنه ليخيل إلينا أنها أشدُّ ملاةً منها حين ابتدأ فيها -يخيل إلينا أن هاتين المزادتين مع المرأة أشد امتلاءً مما كانت في البداية- وفي رواية: وهي تكاد تنض من الملء -أي: تنشق ويخرج منها الماء من شدة الامتلاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها -مقابل الماء الذي أخذوه- فجمعوا لها من بين عجوةٍ ودقيقٍ وسويقةٍ -وهو طحين الحنطة والشعير وغيرهما- حتى جمعوا لها طعاماً -من الذي مع أفراد الجيش- فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، ثم قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائِك شيئاً -أنت ترين بعينك أننا ما أنقصنا من مائك شيئاً- ولكن الله هو الذي أسقانا، فأتت أهلها -الحي الذي خرجت منه- وقد احتبست عنهم -تأخرت عنهم- قالوا: ما حبسكِ يا فلانة؟ قالت: العجب! لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعها الوسطى والسبابة فرفعتها إلى السماء تعني: السماء والأرض، أو إنه لرسول الله حقاً -الاحتمال الثاني: أنه رسول الله حقاً كما زعموا؛ لأنهم قالوا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين -في الجهاد- ولا يصيبون الصِّرْمَ الذي هي منه -والصرم: هي البيوت المجتمعة المنقطعة عن غيرها، يغيرون على ما حول قوم هذه المرأة ولا يصيبون قومها- فقالت يوماً لقومها: ما أرى إنَّ هؤلاء القوم يدعونكم عمداً -أي: ليسوا بغافلين عنكم- فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام، وفي الرواية الأخرى: فأسلمت وأسلموا).