ومن الجهة المقابلة: كيف يراعي الضيف شعور المضيف؟ شخص آتى له ضيف فجأة، ولا يوجد عند صاحب البيت أكل، كيف يتلافى الضيف الموقف ويشعر صاحب البيت أنه لا يضر وأنه غير متأثر، ولا يعتبرها إهانة؟ هذا الحديث الصحيح في السلسلة الصحيحة، يقول ثوبان رضي الله عنه:(نزل بنا ضيف بدوي) أي: عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام بيوته -ما هي بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هي فلل؟ كل بيت حجرة، هذه حجرة عائشة، وهذه حجرة أم سلمة، ولو وقف الواحد فيها لضرب رأسه بالسقف.
(فجعل يسأل عن الناس) هذا البدوي أتى من البادية، والرسول صلى الله عليه وسلم حكيم يهتم بأمور المسلمين، فجلس مع البدوي يسأله، يقول: كيف البادية عندكم؟ أظنهم يصلون ويؤدون الشعائر، ومهتمين بالدين، ويراعون الحلال والحرام، ويسألون عما أشكل عليهم؟ فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل البدوي عن الناس في البادية:(كيف فرحهم بالإسلام؟ وكيف حدبهم على الصلاة؟ فما زال يخبره من ذلك بالذي يسره، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نضراً، فلما انتصف النهار وحان أكل الطعام، دعاني مستخفياً -انظر الأدب، فلم يقل: يا ولد! أحضر الطعام، لا- قال: دعاني مستخفياً لا يألو: أن ائت عائشة رضي الله عنها فأخبرها أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفاً.
فقالت عائشة لما ذهب ثوبان إليها: والذي بعثه بالهدى ودين الحق ما أصبح في يدي شيء يأكله أحد من الناس.
فردني إلى نسائه -الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الخبر، يقول: اذهب إلى فلانة، وإلى فلانة، على زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كلهن- كلهن يعتذرن بما اعتذرت به عائشة رضي الله عنها، قال: فرأيت لون رسول الله صلى الله عليه وسلم خسف) لماذا خسف؟ لأنه ليس عنده شيء، يريد أن يكرم الضيف فصار في موقف حرج.
والبدوي كان ذكياً رضي الله عنه، وكان رجلاً فقيهاً، لم تجعله البادية ينسى قضية الاهتمام بالنفوس ومراعاة الشعور، (فقال البدوي لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرج، قال: إنَّا أهل البادية معانون على زماننا، لسنا بأهل الحاضرة، فإنما يكفي القبضة من التمر، يشرب عليها من اللبن أو الماء فذلك الخصب) أي: إذا وجد تمر وعليه ماء أو لبن، فهذا أعلى شيء، وهذا هو الخصب.
وبعد ذلك حلب له الرسول صلى الله عليه وسلم، وصارت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم حيث درت شاة من الشياه، وشرب البدوي حتى ارتوى.
فانظر كيف أن هذا البدوي من فطنته ورقته ومراعاته لهذه الأشياء ذكر هذا الكلام، حتى لا يحرج الرسول صلى الله عليه وسلم.