للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تبديل سيئات التائبين إلى حسنات]

إذاً: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٧٠] فماذا تريد إذا تبت أكثر من أن يبدل الله سيئاتك حسنات؟ هذه السيئات كلها التي فعلتها في الماضي تنقلب إلى حسنات بالتوبة ليست فقط تغفر السيئات، وإنما تنقلب إلى حسنات، لكن ليس هذا فتح باب للشر ولا هو دفعٌ للناس أن نقول لهم أذنبوا أذنبوا واستكثروا من الذنوب، لأنها كلها ستنقلب إلى حسنات، لا.

فهذا لا يمكن أن يحدث للعابين البطالين، كلا -أيها الإخوة- المسألة لها ضوابط وحدود، والدين ليس لعباً وهزوا، كلا: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:٧٠] لاحظ الشروط: التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، وفي الآية الأخرى: {ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢] بعد ذلك تبدل السيئات حسنات.

وقال ابن القيم رحمه الله: إما أن تبدل بالسيئات حسنات من ناحية الصفة، يعني: أن يبدل الله بالشرك الإيمان، وبالزنا عفةً وإحصاناً، وبالكذب صدقا، وبالخيانة أمانة، هذا أحد المعاني: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠] من المعاني أيضاً: تبديل السيئات التي عملوها في الدنيا بحسنات يوم القيامة، وهذا الأخير قد يقل وقد يكثر، يعني: لو أن شخصاً عنده مليون سيئة فقد تبدل بحسنات مثلها في العدد، أو أقل منها، أو أكثر منها، أو أنها أكثر في الكيفية أو أقل أو مثلها في الكيفية كما أنها في الكمية على حسب ماذا؟ على حسب استقامة الشخص والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ارتكاب تلك الفواحش.

ومسألة رغبة الناس أن يكونوا عند الهداية قد مُسِح عنهم الماضي فهي رغبة عند كثيرين من مريدي التوبة، يريدون مسح الماضي بأي وسيلة، فكثير من الشباب الذين هداهم الله عز وجل والكبار الذين هداهم الله عز وجل والنساء اللاتي هداهن الله عز وجل يأتون يقول لك: أنا أريد أن أهتدي، لكن ماذا عن سيئاتي الماضية هل تمحى أم لا؟ هذا سؤال مصيري يهمني، أريد أن أعرف هل يمكن أن يمسح الماضي أم لا؟ أنا قلق على الماضي، أنا لا أزال أتذكر تلك الفواحش، ماذا سيحدث؟ يعبر عن هذه النفسية الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي -غريب لماذا قبض عمرو يده؟ - قال: ما لك يا عمرو؟ -هل تراجعت؟ - قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي - عمرو بن العاص يريد أن يدخل الإسلام لكن يريد في نفس الوقت أن تمحى الصفحة الماضية وتطوى بالكلية- قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟) وقال الله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:٨٦] إلى أن قال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:٨٩] إذاً ليست المسألة أن نتوب الآن وبعد دقائق أو بعد أيام نرجع مرة أخرى ونواصل ونضحك على أنفسنا ونخادع الله كما يخادع بعض الناس الصبيان، الآن أفعل الذنب وأتوب بعد خمس دقائق، وأفعله مرة ثانية وهكذا، وأقول: تبدل السيئات حسنات ومسح هذا الماضي! ويعبر عن هذه النفسية أيضاً نفسية إرادة مسح الماضي بالكلية الحديث الآتي: عن ابن عباس (أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن -كلامك جميل جداً ونحن مقتنعون به- فلو تخبرنا، أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:٦٨] ونزل قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:٥٣]).