[الفرق بين المؤمن وغيره]
ما أعظم الفرق بين رجلين: يعيش أحدهما وهو يعتقد في نفسه أنه مجرد حيوان يسعى للذاته ويهيم فيها، ويعيش الآخر في الطرف الآخر وهو يعتقد أن الله قد استخلفه في الأرض، وأمره بعمارتها، وإقامة منهج الله فيها، والجهاد للدفاع عن هذا المنهج، إنه يحس أنه صاحب رسالة، وأنه مكلف بإقامة العدل، والدعوة إلى الدين، وبإقامة صرح الإسلام في الأرض.
بينما الكافر يحس ماذا؟ يحس أنه حيوان يسعى في لذاته وبهيميته وظلمه للناس، واضطهاده للمستضعفين، وامتصاص الخيرات والهيمنة والسيطرة؛ لأجل لذاته، ولأجل جيبه وأمواله وهكذا الفرق العظيم بين الرجلين.
أيها الإخوة! إن أثر الإيمان في حياة الإنسان عظيم، إنه يجلب له السعادة التي يبحث عنها الناس شرقاً وغرباً؛ وبعض الناس يذهبون في الرحلات السياحية، ويغيرون الأجواء، ويغيرون أثاث البيت، ويدخلون المطاعم المختلفة الشرقية والغربية، ويلبسون الثياب المختلفة باحثين عن السعادة وهي عند المسلم في نفس المؤمن.
جرب الناس في شتى العصور ألوان المتع المادية والشهوات الحسية فما وجدوا السعادة فيها، بحثوا في رخاء العيش، ووفرة النعيم، ورفاهية الحياة، ومستوى المعيشة المرتفع، بحثوا فيها فلم تزدهم إلا ضيقاً وانحباساً، ولم تزدهم إلا شقاءً وخوفاً وتعاسة، بل أدت بهم إلى الاضطرابات النفسية والعصبية.
هاأنت ترى بلداً مثل السويد مثلاً؛ لا يشعر سكانها بخوف من فقر، أو شيخوخة، أو بطالة، أو كارثة؛ لأن الدولة تضمن لهم كل شيء؛ هناك إعانات دورية ضخمة يستحق السويدي معاشاً وإعانة مرض، ومعاش عدم الصلاحية وإعانة غلاء معيشة، وإعانة مسكن، وإعانة للعمى تصرف نقداً، وعلاجاً مجانياً في المستشفيات، وتدفع إعانة أمومة لكل النساء شاملة مصاريف الولادة والرعاية الطبية في المستشفى، وإعانة إضافية لكل مولود، وللطفل مخصص شهري حتى يبلغ ستة عشر عاماً، ومصاريف انتقال مجانية في الإجازات، ومدارس رياض الأطفال برسوم تافهة، والتعليم مجاني في جميع مراحله، وإعانة ملابس، وللطلبة المجتهدين، وتأثيث منازل العرسان وغيرهم، فماذا جلبت عليهم؟ إن معدل الانتحار في السويد من أعلى معدل الانتحارات في العالم! لماذا وعندهم كل هذا النعيم، وعندهم كل هذا الرخاء، وكل هذه الرفاهية؟ وهذه البلد الأخرى الكبيرة لم يحقق الغنى لأبنائها السعادة على الرغم من ناطحات السحاب، ومراكب الفضاء، وتدفق الذهب من فوقهم ومن تحت أرجلهم حتى قال قائلهم: إن الحياة في نيويورك غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء.
إن السعادة ليست بكثرة المال والأولاد، وصدق الله إذ يقول في وصف الكفار الذين نراهم اليوم: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:٥٥] {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:٨٥] قال عليه الصلاة والسلام: (من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) هكذا هُم في هَمٍ لازم، وتعب دائم وحسرة لا تنقضي، مهما نال الشخص منهم شيئاً منها طمحت نفسه إلى ما فوق، وهكذا في عذاب دائم لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً.
حالهم في الدنيا كحال شارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً.
ثم إن أولادهم كثيراً ما يجلبون عليهم التعاسة والشقاء؛ في عقوقهم وكفرانهم لنعمة آبائهم، وإذا لم يكن الولد مؤمناً تقياً براً كريماً فإنه يكون سبب تعاسة لأبوية.
أرى ولد الفتى ضرراً عليه لقد سعد الذي أمسى عقيما
فإما أن يربيه عدواً وإما أن يخلفه يتيما
وإما أن يوافيه حمام فيترك حزنه أبداً مقيما
وهكذا أحس هذا الشاعر بأن العقم هو السعادة من جراء ما رآه من تعاسة الأولاد.
ليست السعادة في وفرة المال، ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا نيل المنفعة، ولا العلم المادي، ولا المخترعات، ولا الآلات؛ إنها شيء لا يرى بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحتويه الخزائن، ولا يشترى بالدينار، ولا الجنيه والدولار؛ السعادة: شيء يحسه الإنسان بين جوانحه إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير.
قال زوج لزوجته: لأشقينك، فقالت له بهدوء: لا تستطيع ذلك أبداً كما أنك لا تملك أن تسعدني، فقال في حنق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت في ثقة: لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو زينة من الحلي والحلل لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون فقال: وما هو؟ فقالت في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه إلا ربي.
هذه هي السعادة التي أحس بها المؤمنون الصالحون فقال قائلهم: إننا نجد سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف؛ لأنهم يبحثون عنها أشد البحث.
وقال الآخر وهو في جنة ذكره في الدنيا وخلوته بربه: إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه لكانوا في عيش طيب.
هؤلاء الذين يعيشون في جنة الإيمان وواحته في الدنيا، هؤلاء هم المغمورون في السعادة حقاً.
يا عباد الله! لا نجحد أن للجانب المادي أثراً في تحقيق السعادة للإنسان، ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من السعادة وذكر منها أموراً دنيوية: كالدار الواسعة، والمركب الهنيء) ولكنها ليست كل شيء، ليست في المكان الأول، إن المكان الأول إنما هو للإيمان الذي هو حقيقة السعادة، السعادة الحقيقية فيه أنه يحس بسكينة النفس.
قال أحد الأطباء اللامعين في أمريكا: وضعت مرة وأنا شاب جدولاً لطيبات الحياة المعترف بها، فكتبت رغباتي الدنيوية: الصحة والموهبة والقوة والثراء والشهرة، ثم أطلعت حكيماً من الحكماء عليها، فقال: يبدو أنك أغفلت العنصر المهم الذي بدونه يعود جدولك عبئاً لا يطاق، فقلت ما هو: فضرب على الجدول كله وكتب كلمتين: سكينة النفس وهي ما يبحثون عنها، ثم قال: وقد وجدت يومئذ أن من الصعب أن أتقبل هذا، ولكن الآن بعد نصف قرن من الزمن والتجربة الخاصة والملاحظة الدقيقة؛ أصبحت أدرك أن سكينة النفس هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، لقد رأيت السكينة تزهر بغير عون من المال، وبغير مدد من الصحة، بل إنها تحول الكوخ إلى قصرٍ رحب، كما تحول القصر قفصاً وسجناً.
فلا سكينة -أيها الإخوان- بلا إيمان، السكينة التي يبحثون عنها أين هي؟ إنها في الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً واضطراباً وشعوراً بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان؛ انظر إليهم في المخدرات، وانظر إليهم في حالات الانتحار، وانظر إليهم في عيادات الأطباء النفسانيين، إن حياتهم ليس لها طعم ومذاق وإن حفلت باللذائذ والمرفهات؛ لأنهم لا يدركون لها معنى ولا يفقهون لها سراً، ولكن المؤمن سكينته في نفسه روحٌ من الله ونور، يسكن إليها إذا خاف، ويطمئن عندها إذا قلق، ويتسلى بها إذا حزن، ويستروح بها إذا تعب، ويقوى بها إذا ضعف {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع على الله وجمع القلب وتوحد النية والتوجه والفرار إلى الله، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً ".