[إيقاف الناس عند حدهم]
من سمات رجل العقيدة: أنه يُوقف الناس عند حدهم ويفاصلهم عندما يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن سعيد بن جبير: (أن قريباً لـ عبد الله بن مغفل رضي الله عنه خَذَفَ، فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف -يضع الإنسان الحجر بين إصبعيه ويرمي به- وقال: إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدوا؛ ولكنها تكسر السن وتفقأ العين قال: فعاد وأصر وخذف، فلما رآه قال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف، لا أكلمك أبداً).
ورجل العقيدة صاحب عبادة، إيمانياته قوية، متصل بربه عزوجل، نأخذ مثالاً واحداً فقط: عثمان رضي الله عنه؛ لأن حياة عثمان رضي الله عنه لا يُهتم بها كثيراً مثلما يُهتم بغيرها من الخلفاء، مع أنه رجل عظيم رحمه الله، قال عثمان رضي الله عنه: [لو طهُرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يومٌ لا أنظر فيه في المصحف، وما مات عثمان رضي الله عنه حتى تخرق مصحفه من كثرة ما يدم النظر فيه].
وعن محمد بن سيرين قال: قال أنس: [قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن].
وكان رضي الله عنه لا يُوقظ أحداً من أهله إذا قام من الليل يُعينه على وضوئه إلا أن يجده يقظاناً، وكان كثير الصوم، وكان يُعاتب، فيقال له: لو أيقظت بعض الخدم يساعدوك في الوضوء في قيام الليل، فيقول: [لا.
الليل لهم يستريحون فيه].
وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه من شدة حيائه رضي الله عنه.
وتأمل في كلام ابن القيم رحمه الله وهو يُعبر لك عن نفسية شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن اتصال ذلك الرجل بالله عزوجل، قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرةً: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شُكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار إلى سورها نظر إليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣].
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نظرة النعيم على وجهه.