[الهمة في طلب العلم]
وأخيراً من الهمم العالية في طلب العلم، وهي كثيرة جداً وننتقي بعض المقاطع: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، قال: واعجباً لك يا بن عباس! أتظن أن الناس يحتاجون إليك وفيهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟! فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو نائم القيلولة، فأتوسد ردائي على بابه فتسفو الريح عليَّ التراب فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ألا أرسلت إليَّ فآتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني].
الهمة العالية تجعله يتوسد عند الباب في الظهيرة، هذا الرجل نائم وابن عباس عند الباب، والريح تأتي بالتراب ينتظر للمسألة العلمية.
وهذا عروة بن الزبير، فعن هشام عن أبيه أنه كان يقول لنا ونحن شباب: [مالكم لا تتعلمون؟ إن تكونوا صغاراً فيوشك أن تكونوا كباراً، وما خير الشيخ أن يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولقد كان يبلغني عن الصحابي الحديث فآتيه وأجده قد قال، فأجلس على بابه ثم أسأله عنه].
وكان عامر بن قيس التميمي مقرئاً يقرئ الناس القرآن فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاءين فينصرف إلى منزله، ثم يأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى صلاته، ثم يتسحر رغيفاً ويخرج.
قيام وصيام وقراءة قرآن من الصباح إلى الليل.
أما سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: كنت أجلس بالغدوات لـ ابن أبي مالك وأجالس بعد الظهر إسماعيل بن عبيد الله وبعد العصر مكحولاً.
وأما القعنبي فقال أبو حاتم: ثقة حجة لم أر أخشع منه؛ كان إذا مر بمجلس القوم قالوا: لا إله إلا الله، ذكروا الله عز وجل، سألناه أن يقرأ علينا الموطأ، فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند الحجاج بن منهال، قال: فإذا فرغتم منه؟ قلنا: فنأتي حينئذٍ مسلم بن إبراهيم، قال: فإذا فرغتم؟ قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي، قال: فبعد العصر؟ قلنا: نأتي عارماً أبا النعمان، قال: فبعد المغرب؟ فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا وعليه كبلٌ ما تحته شيء في الصيف، فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذٍ.
هذا يدل على أن أبا حاتم وأقرانه كانوا يطلبون العلم ويجلسون المجالس المتواصلة في ذلك.
وحدث بعض أهل العلم وهو ابن حبان عن بعض العلماء - ابن حبان يحدث عن نفسه- قال: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ، قال الذهبي: كذا فلتكن الهمم، هذا مع ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف رحمه الله.
وقال محمد بن علي السلمي: قمت ليلة سحراً لآخذ النوبة على ابن الأخرم فوجدته قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر.
وابن الأخرم كان له حلقة عظيمة بجامع دمشق يقرءون عليه من بعد الفجر إلى الظهر.
والطبري قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا، قالوا: كم قدره؟ قال: نحو ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، قال: إنا لله! قد ماتت الهمم.
فاختصر ذلك في قرابة ثلاثة آلاف ورقة.
وأما السمعاني رحمه الله فإنه طوف البلاد وأخذ عن مشايخ لا يعدون، وذهب إلى أبي ورد وإسفرائين والأنبار وبخارى وبسطام والبصرة وبلخ وترمذ وجورجان وحماه وحمص وحلب وخسرو وجرج والري وسرخس وسمرقند وهمذان وهرات والحرمين والكوفة وواسط والموصل ونهاوند والمدائن ولم تكن هناك طائرات ولا سيارات ولا قطارات، وإنما المشي على الأرجل والدواب حتى دخل بيت المقدس والخليل وهما بأيدي الفرنج، حيث استخدم الحيلة وخاطر ودخل رغم أنها تحت احتلال النصارى.
السلفي الذي ذهب يطلب العلم وله أقل من عشرين سنة، ونسخ من الأجزاء ما لا يحصى، وكان ينسخ الجزء الضخم في ليلة، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاماً.
وأبو طاهر قال: بلت الدم في طلب الحديث مرتين؛ مرة بـ بغداد وأخرى بـ مكة، وقال: كنت أمشي حافياً في الحر فلحقني ذلك، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في الطلب أحداً -يعني: ما سأل أحداً مالاً- قيل: أنه كان يمشي في اليوم والليلة عشرين فرسخاً؛ والفرسخ تقريباً خمسه كيلو مترات.
وروي عن سليم الرازي قال: كان أبو حامد الإسفراييني في أول أمره يحرس في درب -لكن له همة عالية ولو كان يحرس في درب- وكان يطالع على زيت الحرس -يقرأ على مشاعل الحرس- وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة.
عطاء بن أبي رباح كان فراشه المسجد عشرين سنة.
الزهري جلس يتذاكر الحديث من بعد العشاء حتى أصبح، وعدد من السلف فعلوا ذلك.
الإمام مالك قَلَّ أن يصلي الصبح بوضوء جديد وإنما كان يصلي بوضوء العشاء تسعاً وأربعين سنة.
وكيع بن الجراح والإمام أحمد تذاكرا الحديث من العشاء إلى آخر الليل.
كان أسد بن الفرات يجلس عند محمد بن حسن الشيباني يتلقى منه الحديث، وكان ينثر في وجهه الماء -ينضح- لكي يصحو ويبقى منتبهاً في الدرس.
أحمد بن حنبل كان يذهب من قبل الفجر إلى مجلس الشيخ ليتبوأ مكانه، وكان يقول: من المحبرة إلى المقبرة.
كان البخاري يستيقظ عشرين مرة في الليل ليسجل ما يخطر له، يشعل السراج في كل مرة ويطفئه.
هذه هي الهمم العالية، هذا الحفظ، والعلم، والرحلة، والتأليف والتصنيف، وهذه المجالس، وهذا الحرص على الحضور.
هذه -أيها الإخوة- نماذج مما كان عليه سلفنا رحمهم الله في طلب العلم والهمم العالية فيه.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يقوي إراداتنا في طاعته، وأن يجعلنا من أصحاب الهمم العالية في سبيله مجاهدين وعلماء عاملين، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.