للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استغلال الطاقات والمواهب في خدمة الدين]

ورجل العقيدة يستغل طاقاته ومواهبه في خدمة الدين.

أيها الإخوة! إن الله يحاسب الناس على قدر طاقاتهم، فالله لا يحاسب الذكي مثل البليد، ولا يحاسب القوي مثل الضعيف، ولا يحاسب الشاب مثل الكهل الكبير، ولا يحاسب صاحب النفوذ والسلطان مثل الرجل المسلوب السلطان الذي ليس له قوة، ولا يحاسب الرجل الذي عنده قدرة على التداخل في نفوس الناس وإيصال الإيمان والدعوة إليهم، مثل الرجل الذي ليست عنده تلك القدرة انظر إلى مصعب بن عمير كيف استغل ذلك؟! ورجل العقيدة يستغل منصبه ونفوذه وسلطانه في دعم الدين انظر إلى عمر بن عبد العزيز، وحتى إذا آتاه الله موهبة قرض الشعر فإنه يكتب الشعر لينافح عن دين الله عزوجل، ويهتك أستار أهل الباطل انظر إلى حسان رحمه الله.

وإليك -يا أخي- هذا المثال العظيم الذي سطَّره التاريخ الإسلامي لرجلٍ من رجال العقيدة استغل موهبته في خدمة الدين، قال القاضي ابن شداد رحمه الله في سيرة صلاح الدين الأيوبي في إحدى الوقعات يقول: ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عَوّاماً مسلماً يقال له: عيسى كان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العدو، وكانت بلاد المسلمين محاصرة، فكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو رجل من المسلمين ليست عنده موهبة إلا القدرة على الغطس والعوم، فكان يستغل قدرته على الغطس والعوم في أن ينزل قبل مراكب العدو بمسافة ومعه هذه الأحمال إلى البلد المحاصرة، وكان ذات ليلة قد شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار، وكتب للعسكر، وعام في البحر، فجرى عليه من أهلكه ومات هذا العوّام، وأبطأ خبره، فاستشعر الناس هلاكه، وبينما الناس على طرف البحر في البلد وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً، فرأوه فإذا هو عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب، وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُؤي من أدى الأمانة في حال حياته -وقد أداها بعد وفاته- مثل هذا الرجل، وكان ذلك في العشرة الأيام الأخيرة من شهر رجب.

رجل العقيدة يعمل ولو كان غير معروف، ولو كان يجهله الناس، ولكنه يعمل لا يبتغي الشهرة أو المعرفة أو يُشار إليه بالبنان، قال ابن كثير في البداية: ولما أُخبر عمر بمقتل النعمان بكى، وسأل عمن قتل من المسلمين؟ فقال: فلان وفلان وفلان، ثم قال: وآخرون من أصناف الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين من البلاد المتفرقة والقبائل المتفرقة، فجعل عمر رضي الله عنه يبكي، ويقول: [ما ضرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين، لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم الله بالشهادة وما يصنعون بمعرفة عمر].

رجل العقيدة إذا تعرض لاستمالة من قبل أهل الضلال، فإنه يأبى أن يترك الصف الإسلامي وينحاز إلى صفوف أهل الفجور والبدعة والمعاصي الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأنت تسمع قصة كعب بن مالك وترى عظمة ذلك الصحابي رضي الله عنه، لما فاضت عيناه؛ لأن الناس ما كلموه بناءً على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول كعب: [فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، فإذا بنبطي من نبطي أهل الشام يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون إليّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: أما بعد! فإنا قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك قال: فقلت حين قرأتها -النفوس لا تظهر إلا عند مواضع الاحتكاك والفتنة؛ وهنا تظهر المعادن- وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور وسجرته بها].

رجل العقيدة صاحب نفس طويل في متابعة المهمات انظر إلى سلمة بن الأكوع رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ثلاث مرات، ولما نادى منادي المسلمين: يا للمهاجرين في الغزوة بعد الصلح قفز فجأة، لأن الحال خطير، فوجد أربعة من المشركين فألقى القبض عليهم وأخذ أسلحتهم وجاء يقودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجل واحد يأسر أربعة فجأة وفي طريق الرجوع أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصعد أحد الصحابة إلى الجبل المرتفع ليكون الطليعة فينظر هل وراء الجبل أحد من المشركين، فصعده سلمة رضي الله عنه مرتين.

ولما قدموا المدينة أغار أناس على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوا الراعي وأخذوا الإبل، واستُنفر الناس، فكان أول رجل نفر هو سلمة بن الأكوع فجرى سلمة وراءهم وانتزع إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً وانتزع منهم كذلك متاعاً لهم، وظل يطاردهم بالنبل وجرحهم وأجلاهم عن الماء وتركهم عطاشى حتى وصل فرسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذوا المال كله، وهو في الرجوع جاء رجل وقال: من يسابق إلى المدينة؟ فسابقه سلمة رضي الله عنه إلى المدينة فسبقه.

كل هذا فعله في فترة واحدة، أشياء متتابعة تأخذ مجهوداً، لكن رجل العقيدة لا يعرف الكلل والملل، بل إنه لا يعرف إلا المتابعة والاستمرارية في العمل.