للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هداية النفس تزكيتها]

ونتحدث أولاً عن الهداية في هذه التزكية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألها ربه كما جاء في صحيح مسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنتَ خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) الهداية المقصودة: هي الهداية التوفيقية التي هي من الله، وهي أعظم نعم الله على العبد، وهي التي اختص الله بها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦].

يحبب إلى العبد الإيمان، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، هذه هي الهداية التي لا يملكها إلا الله عز وجل، وهي المقصودة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩] وهي المعنية في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:٢٥].

والهداية يا إخواني منةٌ من الله على عباده، كما قال عز وجل: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:١٧] {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:٩٤].

وقد استشعر الصحابة هذا المعنى وهو أن الهداية منة من الله ونعمة، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً، فقال رجلٌ من القوم لـ عامر بن الأكوع، ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ -وكان عامر رجلاً شاعراً- فنزل يحدو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداءً لك ما اقتفينا وثبت الأقدام إن لاقينا

فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من هذا؟ قالوا: عامر، فقال: يرحمه الله).

وأعظم منةٍ من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الهداية كما قال الله عز وجل وعدد نعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:٧ - ٨].

وبين النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة هذا فقال عندما جمع الأنصار في الخطبة المؤثرة المشهورة: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟) فبدأ أولاً بذكر الهداية من الضلالة، فالضلالة هي: الشرك، والهداية: الإيمان، وثنى بالتأليف والجمع وثلث بالغنى والمال، فرتب النعم ترتيباً بالغاً.

وأهل الجنة حينما يدخلون الجنة يحمدون الله على نعمة الهداية التي هداهم في الدنيا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:٤٣].

قال الطبري رحمه الله: الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله وصرف عذابه عنا، هذه الهداية من الله يقذفها في قلوب من يشاء من عباده، وأحياناً يهتدي الشخص فجأةً بين عشيةٍ وضحاها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في شأن المهدي قال: (المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة) فـ المهدي حقاً سيخرج وهو من أشراط الساعة ويحكم سبع سنين، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت ظلماً، ويعطي المال بدون عدٍ ولا إحصاء، وإنما يحثو حثيه، هذا الرجل يصلحه الله في ليلة، الهداية ليست لها قاعدة ولا مكان، فإن الله سبحانه وتعالى قد يهدي الرجل في أفسق الأماكن، وقد يضل بعضهم في مكة، فكثيرون من الناس ذهبوا إلى أمريكا فأضلهم الله، وبعضهم ذهبَ إلى هناك فهداه الله، فهذا شيء من الله لا يملكه أحد: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦].